رمزية الأوبئة والآفات في الأدب الرؤيوي
القس مفيد قره جيلي
القسّ مفيد قره جيلي*
(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابيّة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدَّس في لبنان بتاريخ 5/11/2021)
تقديم الموضوع مِن قِبل القسّ د. عيسى دياب
هذه الندوة هي الثالثة والأخيرة لهذه السنة التي تناولنا فيها موضوع الكتاب المقدَّس والأوبئة.
على أثر انتشار جائحة كورونا في العالم كلّه، انتشرَت، على وسائل التواصل الاجتماعيّ أخبار غريبة ناتجة عن “قراءة بيبليّة” لهذه الجائحة. وتركّزت الأخبار حول موضوعَين: “الجائحة عقاب إلهيّ بسبب شرّ البشر”؛ و”الجائحة علامة مِن علامات الأيّام الأخيرة”. عدد كبير مِن الناس، وبينهم رجال دِين، قدَّموا آراءهم، وبعضهم “أفتى” في الموضوع، وامتلأت المواقع الإلكترونيّة الدينيّة بهذه الأخبار، حتّى إنّ بعضها قاربَ الخرافات والأساطير. ومطلقو هذه التفاسير، استندوا على قراءات حرفيّة لبعض نصوص الكتاب المقدَّس، وخاصّة سِفر رؤيا يوحنّا اللاهوتيّ. كُنّا قد تناولنا هذَين الموضوعَين في المحاضرتَين السابقتَين لهذه السنة؛ وها نحن نخصّص هذه المحاضرة الثالثة لمعالجة رمزيّة الآفات والأوبئة في سِفر رؤيا يوحنّا اللاهوتيّ.
عدد كبير مِن النصوص البيبليّة، في العهد القديم والعهد الجديد، تأتي على ذكر الآفات والأوبئة في سياقات متعدّدة، فمِنها كـ “عقاب إلهيّ” يصيب الذين “أغضبوا” الله واقترفوا شرورًا كبيرة؛ وبعضها الآخَر كعلامة مِن علامات “النهيويّة” (الأخيريّة أو آخِر الأيّام). وكُنّا، في المحاضرتَين السابقتَين، قد توصّلنا إلى نتائج مخالفة لهذه التفاسير المستندة على ظاهر النصوص. فالآفات والأوبئة ظواهر طبيعيّة ظهرَت في فترات متعدّدة مِن تاريخ البشر، واستخدمها كُتّاب الكتاب المقدَّس كصُوَر رمزيّة تحمل رسائل نبويّة مِن الله للبشر. ما هي يا تُرى هذه الرموز، وما هي معانيها، وما هي ظروف استخدامها في الرسائل النبويّة؟
هذه الأسئلة، وغيرها، يتناولها المحاضِر بِسعة اضطلاعه على هذا الموضوع، كونه أعدّ دراسة معمّقة لسِفر رؤيا يوحنّا اللاهوتيّ. والهدف مِن ذلك هو وضْع أساسٍ متين، ليس فقط لفهم رمزيّة الأوبئة في الكتاب المقدَّس، بل للطرائق العلميّة التي يجب أنْ يتبعها القارئ عندما يقارب نصوصًا بيبليّة.
محاضرة القسّ مفيد قره جيلي
مقدّمة
سنحاول أنْ نعالج الطريقة التي يتيح لنا سِفر رؤيا يوحنّا التفكير فيها ونجيب على مشكلة هذا الوباء الذي أثّر على كلّ المجالات الاجتماعيّة والثقافيّة والتربويّة وعلى الحياة الروحيّة ونشاط الكنائس. ومثلما تساءل الأطبّاء والسياسيّون والاقتصاديّون مِن أين أتى هذا المرض، مِن الطبيعيّ أنْ نسأل بدورنا كلاهوتيّين أو كباحثين في الكتاب المقدّس السؤال نفسه: ما مصدر هذا الوباء؟
والمأزق الأساسيّ الذي نحن فيه هو: هل هذا الوباء هو مِن الله؟ أَمْ مِن شيء آخَر؟ أَمْ هو شيء آخَر ومِن الله في الوقت ذاته؟ للإجابة على هذا السؤال، أسفار الكتاب المقدَّس لها إجابة أو على الأقلّ تساعدنا للإجابة عليه. لكنّ سِفر رؤيا يوحنّا تحديدًا هو مِن الأسفار الغنيّة للحديث عن معاناة وألم وضربات وضيقات وأنواع متعدّدة مِن الأزمات ممّا يساعدنا في الاشتراك مع المستمعين الأوائل. وهذه نقطة مهمّة جدًّا أودّ التركيز عليها. فاليوم سنحاول أنْ نشترك مع المستمعين الأوائل لسِفر رؤيا يوحنّا؛ كيف كانوا يفهمون كلمات الرائي يوحنّا حتّى نتمكّن، انطلاقًا مِن رحلة الذهاب، القيام برحلة العودة ليومنا الحاليّ.
الأدب الرؤيويّ
سِفر رؤيا يوحنّا جزء مِن الأدب الرؤيويّ وهذا الأدب سمّي رؤيويًّا تيمّنًا بسِفر رؤيا يوحنّا. إذ قرّر الباحثون المسيحيّون إطلاق اسم “الأدب الرؤيويّ” على سلسلة مِن الكتابات التي تتشابه مع سِفر رؤيا يوحنّا. فبالنسبة للكتاب المقدَّس، بالإضافة إلى سِفر رؤيا يوحنّا، هناك سِفر دانيال، ونصوص متفرّقة على سبيل المثال لا الحصر، حزقيال 38—39، حيث أحجية “جوج وماجوج” التي يقتبسها سِفر رؤيا يوحنّا 20: 8. وأيضًا مرقس 13 و1 تسالونيكي 4 التي تتكلّم عن “نداءِ رئيسِ الملائِكَةِ وصوتِ بوقِ اللهِ”[1] وملاقاة الأموات مع الأحياء.
والأدب الرؤيويّ له رواج واهتمام مِن الكثيرين في أزمنة الضيق والاضطهاد والألم. وقد كُتب سِفر رؤيا يوحنّا في نهاية القرن الأوّل م. أي في زمن اضطهاد الإمبراطور دوميتيان للكنيسة ومعاناة تلك الأخيرة لهذا الاضطهاد.
جاء الأدب الرؤيويّ ليعدّل أو ليطوّر الإجابة النبويّة على السؤال التالي: لماذا يحدث بنا هذا؟ ففيما قَبل كانت الإجابة النبويّة دائمًا: أنتم خطأة، توبوا والله سيغفر لكم وتتحسّن أحوالكم. لكنّ هذه الإجابة لم تعد تصلح في وقت أصبح شعب الله في أزمة بسبب إيمانه وولائه لله!
على سبيل المثال، إذا رأينا عائلة فقدَت ابنها بسبب الاضطهاد اليونانيّ الذي كان يقوم على رمي الأولاد الذين يتمّ ختنهم، فلا يمكن أنْ نقول لهذه العائلة أنْ تتوب وتسمع كلمة الله؛ فهُم فقدوا ولدهم في سبيل كلمة الله!
سِفر رؤيا يوحنّا
والكنيسة في سِفر رؤيا يوحنّا تعاني بسبب إيمانها بكلمة الله. “هُنا صَبرُ القِدِّيسينَ الّذين َ يتَمَسَّكونَ بِوَصايا اللهِ والإيمانِ بِيَسوعَ” (رؤيا يوحنّا 14: 12). “أنا أعرِفُ أعمالَكَ وجَهدَكَ وصَبرَكَ” (رؤيا يوحنّا 2: 2). فسِفر رؤيا يوحنّا لا يقول لهم: آمنوا وتوبوا كي تتحسّن أحوالكم. ويتكرّر السؤال: لماذا يحدث بنا هذا؟ نسأله اليوم بعد أنْ تعطّلَت أعمال الكثيرين ومشاريعهم الاقتصاديّة وبرامج الكنائس الروحيّة بسبب كوفيد 19. لماذا يحدث بنا هذا؟ فالعديد مِن الأشخاص فقدوا أحبّاءهم بسبب هذا الوباء. وهكذا نشترك مع كلمات سِفر رؤيا يوحنّا الذي يقول: “إلى متى، أيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ الحَقُّ، لا تَدينُ سُكّانَ الأرضِ وتَنتَقِمُ مِنهُم لِدِمائِنا؟” (رؤيا يوحنّا 6: 10).
في الحقيقة، نحن اليوم نشترك في الأسئلة التي يطرحها سِفر رؤيا يوحنّا: لماذا يحدث بنا هذا؟ وما مصير الذين ماتوا؟ وهذا السِّفر يتعامل مع هذه الحالة. فيرسل خطابًا للكنائس السبع في آسيا الصغرى، هي عبارة عن “نرجسيّة روحيّة”. ويقفز 1900 سنة حتّى يتكلّم معنا ومع مشاكلنا بغضّ النظر عن الكنائس السبع المضطهَدة أو لِنقُل الكنائس الستّ إذا ما استثنينا كنيسة لاوُدِكيَّة التي كانت منتعمّة.
إذًا، سِفر رؤيا يوحنّا لم يُكتب مِن أجلنا في البداية بل مِن أجل الكنائس السبع التي كانت تعاني وتتألّم نتيجة اضطهاد رومة لها، إذ كان يُطلب منهم الانسجام مع البيئة الرومانيّة التي كانت تطالبهم بتقديم عبادات للإمبراطوريّة وللإمبراطور الرومانيّ. ومَن كان يرفض ذلك كان يعاني الاضطهاد والعزل الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسجن والنفي، إلخ. فكاتب سِفر رؤيا يوحنّا نفسه كان منفيًّا إلى بطمس بسبب ولائه للمسيح يسوع. وكانت تصل الاضطهادات لحدّ الموت مثلما يقول في إحدى رسائله للكنائس السبع عن “أنتيباسَ شاهِدي الأمينِ الّذي سقَطَ قَتيلاً عندَكُم” (رؤيا يوحنّا 2: 13).
فأساس سِفر رؤيا يوحنّا هو موجَّه للكنائس السبع التي تعاني مِن ضيق شديد وكانت تنتظر تدخُّل الله، بالضبط مثلما نعاني نحن اليوم مِن ضيق شديد، في الشرق الأوسط بشكل خاصّ وفي العالَم بشكل عامّ، بسبب كوفيد 19، ونسأل تدخُّل الله في حياتنا.
لكنّنا سنكون مخطئين إنْ فكّرنا أنّ سِفر رؤيا يوحنّا سيفكّ أحاجينا متجاوزين الظروف التي كان تعيش فيها الكنائس السبع في آسيا الصغرى والتي يعدّدها كالتالي: أفسس، وسميرنا، وبرغامس، وثياتِيرة، وسارْديس، وفيلادلفيا، ولاوُدِكيَّة. لذلك سِفر رؤيا يوحنّا يتحدّث عن هؤلاء والمعاناة التي كانوا يعيشونها بسبب الإمبراطوريّة الرومانيّة، بالإضافة إلى المشاكل الداخليّة، كمسألة الرسل الكاذبين (رؤيا يوحنّا 2: 2)، والنُّقولاوِيِّين (رؤيا يوحنّا 2: 6، 15)، والذين “يَزعمونَ أنَّهُم يهود وما هُم بِيَهودٍ بَلْ هُم مَجمعٌ لِلشَّيطانِ” (رؤيا يوحنّا 2: 9)، إلخ. وهنا تأتي الرسالة الرؤيويّة التي تقول إنّ الله سوف يتدخّل. فلكي نفهم بالضبط سِفر رؤيا يوحنّا لا نقدر، كما قلنا، أنْ نتجاوز الظروف التاريخيّة التي عاشها الكاتب وعاشتها الكنائس السبع.
الضربات
وهناك نقطة أخرى مهمّة في سياق الأوبئة والآفات في سِفر رؤيا يوحنّا: علينا أنْ نميّز بين الضربات التي تأتي مِن الله والضربات التي مصدرها الشرّ. الضربات التي تأتي مِن الله تنهي التعذيب الرومانيّ وتنهي معاناة الكنيسة في تلك الفترة وتنهي قوى الشرّ- الحليف الأساسيّ لرومة المتمثّلة بالتنّين (إبليس) والمتمثّلة بالهاوية والموت. هذه هي المصادر الأساسيّة للشرور التي ينهيها الله في ضرباته. لكنْ، في المقابل، بينما الله يتدخّل ويأتي بضربات ويواجه الشرّ ويعاقبه ويعاقب أجناده وأدواته (رومة والنظام السياسيّ الحاكم)، في هذه الأثناء، قوى الشرّ تردّ بضربات مماثلة. فيصبح هناك ضربات تأتي بتدخُّل مِن الله وضربات تأتي بتدخُّل مِن الشرّ. تلك الضربات الآتية مِن الشرّ تأتي أحيانًا لتنفّذ إرادة الله. كلّ الأشياء ستعمل لتنفيذ إرادة الله ولخير الذين يحبّونه. هذا ما سيقوله الرسول بولس في رومة 8: 28 إنّ “اللهَ يَعمَلُ سويَّةً معَ الّذينَ يُحبُّونَهُ لِخَيرِهِم في كُلِّ شيءٍ”.
فلننظر الآن إلى الضربات الآتية مِن الله. سنرى ثلاث سلاسل أساسيّة: السلسلة الأولى هي الختوم السبعة، السلسلة الثانية هي الأبواق السبعة، والسلسلة الثالثة هي كؤوس الغضب السبع.
في هذه السلاسل الثلاث سنجد ضربات آتية مِن الله وردّة فعل مِن الشرّ، وعلينا أنْ نميّز بينها.
مشكلة الكنيسة الأساسيّة كانت رومة ومجدها، والبلاط الرومانيّ، والعرش الرومانيّ، وما إلى هنالك. لذلك كان مِن الضروريّ أنْ يبدأ سِفر رؤيا يوحنّا بالحديث عن عرش الله.
رؤيا يوحنّا 4—5
رؤيا يوحنّا 4—5 هو حديث رائع عن عرش الله، لكننا سنركّز على بعض نقاط أساسيّة.
العدالة
أوّلًا، حول عرش الله هناك “قوس قزح” (رؤيا يوحنّا 4: 3). سِفر رؤيا يوحنّا يحتوي استحضارًا للعهد القديم، وهذا القوس هو استحضار للقوس- علامة الميثاق بين نوح والله، أو بين الله والبشريّة. علامة الميثاق هو قوس قزح في السحاب. الفكرة المفتاحيّة في هذا الميثاق هي العدالة. في تكوين 9: 5-6 “أمَّا دِماؤُكم أنْتُم فأطلبُ عَنها حِسابًا مِنْ كُلِّ حيوانٍ أو إنسانٍ سَفكَها. وعَنْ دَمِ كُلِّ إنسانٍ أطلُبُ حِسابًا مِنْ أخيهِ الإنسانِ. مَنْ سَفَكَ دَمَ الإنسانِ يَسفُكُ الإنسانُ دَمَهُ”. إذًا النقطة الأولى هي العدالة التي يحضّرنا لها سِفر رؤيا يوحنّا.
الحمل المذبوح
النقطة الثانية هي وجود ما يشبه الجنرالات والقوى في عرش السماء: 24 شيخًا وأربعة كائنات حيَّة وأرواح الله السبعة (رؤيا يوحنّا 4: 4-6)، وفي المقابل، البلاط الرومانيّ. والأهمّ مِن ذلك هو الحمل الواقف “كأنّه مذبوح” في فصل 5 وله الحقّ بفتح الكتاب وفضّ ختومه السبعة (رؤيا يوحنّا 5: 5-9). فيؤكّد لنا الرائي يوحنّا أنّ يسوع المسيح هو شريكنا في الضيق لأنّه حمل مذبوح، وهذه الشراكة أعطتنا بأنْ نكون ملوكًا وكهنة (رؤيا يوحنّا 5: 10).
الختوم السبعة
عندما يبدأ الحمل بفضّ الختوم السبعة نرى فارسًا يركب على حصان أبيض “خرج غالبًا ليغلب” (رؤيا يوحنّا 6: 1-2)، وهو، إذا تبنّينا رأيًا بين عدّة آراء، يمثّل شخص المسيح. فالفكرة الأساسيّة أنّ الختوم السبعة تعطينا انطباعًا وكأنّ المسيح يَظهر وكأنّ نهاية الشرّ بدأت. وما يؤكّد لنا هذا الموضوع هو أنّ يوحنّا كان متشوّقًا لرؤية ماذا يوجد في السِّفر فلم يرَ في السماء مَن يستحقّ أنْ يفتحه (رؤيا يوحنّا 5: 4) إلى أنْ ظهر المسيح الذي وحده يستحقّ ذلك (رؤيا يوحنّا 5: 9).
يظهر المسيح لكنّ الختوم مِن الثانية إلى الرابعة هي محبِطة جدًّا وترينا الشرّ وردّة فعله، لحدّ أنّه في الختم الخامس هناك شريحة حزينة ومحبَطة جدًّا كانت مِن الأموات والشهداء، حتّى أنّهم يقولون للربّ إلى متى تنتظر ومتى تنتقم لنا وتحقّق العدالة مِن الظالمين: “إلى متى، أيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ الحَقُّ، لا تَدينُ سُكّانَ الأرضِ وتَنتَقِمُ مِنهُم لِدِمائِنا؟” (رؤيا يوحنّا 6: 10). نرى إذًا حالة إحباط وحزن، ويأتي السؤال: هل تدخُّل الله مِثل عدمه؟ يجيء الجواب في الختم السادس أنّ تدخُّل الله بالتأكيد سوف يبهر عجز رومة (رؤيا يوحنّا 6: 15). ويتكلّم عن أنّ كلّ الكون سيدخل في القصّة، وعن قوى الخير والشرّ في كلّ العالَم، وعن هذا الكون الذي يخضع لسيطرة الله، وعن زعزعة كونيّة “زَلزالٌ عَظيمٌ يَقَعُ، والشَّمسُ تَسوَدُّ […] والقَمَرُ كُلُّهُ يَصيرُ مِثلَ الدَّمِ، وكَواكِبُ الفَضاءِ تَتَساقَطُ إلى الأرضِ […] والسَّماءُ تَنطَوي طَيَّ اللّفافَةِ، والجِبالُ والجزُرُ كُلُّها تَتَزَحزَحُ مِنْ أماكِنِها” (رؤيا يوحنّا 6: 12-14). ثمّ تأتي قصّة ختم 144 شخصًا على جباههم (رؤيا يوحنّا 7)، وفي الختم السابع لا يوجد أحداث كثيرة بل يكون هناك سكوت (رؤيا يوحنّا 8: 1)، وهو إثارة لحالة ترقُّب؛ وهنا تظهر الأبواق السبعة (رؤيا يوحنّا 8: 6 وما يليها).
الرمزيّة في الختوم السبعة واضحة جدًّا. بكلّ بساطة تتجلّى بعدّة أمثلة منها قصّة تساقط كواكب الفضاء إلى الأرض، “كما يَتَساقَطُ ثَمَرُ التِّينَةِ الفجُّ” (رؤيا يوحنّا 6: 13). ونرى أنّ الأرض لن تنتهِ بل تستمرّ. هي صورة رمزيّة يَستخدمها سِفر رؤيا يوحنّا. فالأدب الرؤيويّ واللغة الرؤيويّة تُدخل كلّ الأجرام السماويّة لأنّ الشعب وكنيسة الله تعاني القهر والألم فيشعرون باليأس مِن العالَم، أمّا عدسة الرائي فتُظهر لنا كلّ الكون وعظمته، وترينا في المقابل سيطرة الله عليه وصِغَر عرش رومة وصِغَر قدرتها. يرينا عظماء الأرض يرتعبون مِن تدخُّل الله. إذ إنّ رومة حاضرة في ذهنيّة المستمع، فإنْ كان المستمع يَعتقد أنّها القويّة والمسيطرة، فهذا منافٍ للحقيقة لأنّ الله هو المسيطر. سيتوضّح ذلك أكثر حين سنصل إلى سلسلة الأبواق السبعة.
الأبواق السبعة
ما يهمّنا في موضوع الأبواق هو التوازي الواضح والانسجام الواضح بينها وبين ضربات مصر العشر، إذ إنّها تستحضرها. نشير إلى أنّنا ما زلنا في سياق الضربات التي مصدرها الله. والتشابه واضح بين الأبواق الأربعة الأولى وضربات مصر العشر: البرد، والنار، وتحوُّل الماء إلى دم، والمِياه التي تصير كالعَلقَم أي غير صالحة للاستخدام، وظلام الأجرام السماويّة (رؤيا يوحنّا 8: 7-12).
البوق السابع يرينا حالة فرح في السماء (رؤيا يوحنّا 11: 15-18)، لأنّ يوحنّا رأى كيف تحدث الدينونة، فنلاحظ أنّ أداة الشرّ لا تنتهي بل تتقهقر أكثر فأكثر في كؤوس الغضب السبعة (رؤيا يوحنّا 15: 7—16). أمّا رمزيّة الضربات هنا فهي في الأبواق تحديدًا، أنّه في وقت كانت تدّعي فيه رومة أنّها تأتي بالسلام للعالَم Pax Romana، سلام أتى به أغسطس قيصر الذي حَكَم رومة مِن 27 ق.م. حتّى وفاته في 14 م.، هذا السلام لا شيء أمام تدخُّل الله مِن أجل إنصاف عبيده الأتقياء.
الأبواق الأربعة الأولى هي إذًا رمزيّة. فإنّه مِن غير المعقول أنْ يحترق ثلث الأرض، ويتحوّل ثلث البحر دمًا، وتموت ثلث الخلائق في البحر، وتقع النار في ثلث الأنهار والينابيع، ويظلم ثلث الفضاء (رؤيا يوحنّا 8: 7-12)، مِن دون أنْ يتأثّر الثلثَين الآخَرين مِن كلّ مِن الأرض والبحر والأنهار والفضاء. إنّما هذا كلام رمزيّ وتأكيد على طَلَب رأس رومة وإثبات أنّ رومة غير قادرة على مقاومة تدخُّل الله.
كؤوس الغضب السبع
الكؤوس السبع (رؤيا يوحنّا 15: 7—16) لا تختلف عن الأبواق السبع، ولا عن الضربات السبع بشكل عامّ، بل تُظهر كيف أنّ الله يستمرّ، والشرّ ما زال يقاوم. لكنْ، في النهاية، تسقط رومة مِن كلّ النواحي وفي كلّ أبعادها الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والدبلوماسيّة.
فبين السلاسل الثلاث: الختوم السبعة، والأبواق السبعة، وكؤوس الغضب السبع، الشرّ يقاوم دائمًا بأشكال متعدّدة ونرى حالة الجوع التي تصيب الناس في الختوم السبعة (رؤيا يوحنّا 6: 8)، ونرى المعارك وقوى الشرّ تتصاعد مِن بئر الهاوية ويخرج الجراد (رؤيا يوحنّا 9: 2-3). لكنْ، هذا الشرّ خاضع لله. فيقول سِفر رؤيا يوحنّا إنّ الله يأتي في “ساعة واحدة” محدَّدة (رؤيا يوحنّا 18: 10، 17، 19) وفي وقت محدَّد مِن أجل مقاصده.
هل الأوبئة هي مِن الله
سِفر رؤيا يوحنّا يقول هناك ضربات مصدرها الله وهناك ضربات مصدرها الشرّ. ويقول إنّ عبيد الله محميّون مِن الضربات الآتية مِن الله حسب قصّة الـ 144 شخصًا مختومًا (رؤيا يوحنّا 7: 3-8). بالرغم مِن أنّ سِفر رؤيا يوحنّا يعرّف عنهم بأنّهم مِن أسباط إسرائيل الـ 12 لكنّ سياق الأحداث في هذا السِّفر لا يدلّ على أنّهم مِن إسرائيل العرقيّة بل على أنّهم أتباع المسيح. ويقول سِفر رؤيا يوحنّا أيضًا إنّ عقاب الله للبشر لا يمكن أنْ يشمل أبناءه؛ بينما وباء كوفيد 19 اليوم يشمل الجميع. وبحسب سِفر رؤيا يوحنّا الشرّ يأتي بالشرّ والظلم يأتي بالظلم. وإنْ كان الناس يقولون إنّ كوفيد 19 هو نتيجة عامل طبيعيّ أو تغيُّر المناخ أو نتيجة سوء إدارة الإنسان لهذه الأرض، لكنْ، في النهاية، كوفيد 19 ليس مصدره الله.
خاتمة
قد نسأل: ماذا يقول سِفر رؤيا يوحنّا عن المؤمنين وأبناء الإيمان الذين قضوا بسبب كوفيد 19؟ يقول إنّ الكنيسة يجب أنْ تبقى شاهدة مهما كانت الظروف، والذين لقوا الموت بسبب صمودهم، هؤلاء سيمسح الله نفسه “كُلَّ دَمعَةٍ تَسيلُ مِنْ عُيونِهِم” (رؤيا يوحنّا 21: 4) تأكيدًا على أنّ التعويض الذي سيحصل عليه المؤمن مِن الله سوف ينسيه كلّ ألم وكلّ ضيق وكلّ عذاب وكلّ نوع مِن أنواع المعاناة التي نعيشها سواء بسبب كوفيد 19 أمْ بسبب آخَر.
- القسّ مفيد قره جيلي، متفرّغ للدراسات في السينودس الإنجيليّ الوطنيّ في سورية ولبنان؛ يحمل ماجستير في الدراسات الكتابيّة مِن كلّيّة اللاهوت الإنجيليّة في القاهرة، وماجستير في العهد الجديد (تحضير للدكتوراه) مِن كلّيّة اللاهوت للشرق الأدنى.
[1] النصوص البيبليّة الواردة في هذه المقالة هي بحسب الترجمة العربيّة المشتركة، بشكل عامّ.
RECENT POSTS
البيئة في الكتاب المقدَّس
البيئة في الكتاب المقدَّس الدكتور دانيال عيّوش RECENT POSTS
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ الخوري د. سامي نعمة RECENT POSTS
المواطنة في الكتاب المقدَّس
المواطنة في العهد الجديد الخوري الدكتور باسم الراعي* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023) مقدّمة القسّ د. عيسى دياب هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها...