الكتاب المقدس- عرض عام
(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 27/2/2015)
- الأب الدكتور أيوب شهوان يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الكتاب المقدس من الكلية الحبرية في رومة، درس الكتاب المقدس لسنين طويلة في جامعة الروح القدس وما يزال. والأب شهوان هو منسق الرابطة الكتابية في الشرق الأوسط، وله العديد من المؤلفات، وهو محرّر كل الكتب الصادرة عن الرابطة الكتابية.
نعتقد أن لا أحد بين البشر لم يسمع بالكتاب المقدس، وإن وُجدوا، فهم يشكلون عددًا صغيرًا. هو الكتاب الأكثر انتشارًا بين الناس، والأكثر ترجمة، والأكثر قراءة. وهو بين الكتب الأكثر تأثيرًا في المجتمعات، والتي ساهمت في تكوّن الحضارة الإنسانية.
نقول “الكتاب المقدس”، فيعتقد بعضهم أنه كتاب واحد، يحتوي على مادة منظمة ومنسقة فيها تسلسل منطقي وأدبي، له كاتب واحد، وكُتِب بتاريخ معيّن. هو ليس هكذا، وبكل بساطة الكتاب المقدس مجموعة كتب، متفاوتة الحجم، مختلفة كثيرًا بعضها عن بعضها الآخر، تحتوي على مواد مختلفة، تعود إلى عصور مختلفة، كُتّابها مختلفون، وأحيانًا مجهولون، تحتوي موادها على تنوع أدبي كبير، فمنها الميثولوجيا، والأساطير (الأسطورة قصة تاريخية مضخمة)، والشرائع، والأخبار، والسِّيَر والروايات، والسرد التاريخي، والمواعظ، والصلوات، والقصائد، والترانيم، والطقوس، والتعليم الدينيى وإلخ. وضع العدد الأكبر من هذه الكتب باللغة العبرية، يتخلل بعضها نصوص آرامية (العهد القديم)؛ والباقي باللغة اليونانية (العهد الجديد). تتضمن هذه الكتب فنونًا وأساليب أدبية مختلفة، فهناك القصة والرواية والقصيدة والرؤيا والمثل والميثوس والخطبة وإلخ. يحتوي الكتاب المقدس على قصص معروفة في تراث الشرق الأدنى القديم (الخلق، والسقوط، والطوفان)، لكنها مطوّعة لتناسب عقيدة التوحيد. حتى بدايات القرن التاسع عشر، العصر الذي تشكل فيه علم الأحافير (الأركيولوجيا أو علم الحفريات)، وصار أساسًا لعلم التاريخ، كان الكتاب المقدس المرجع الوحيد لتاريخ عدد من الشعوب وحضاراتها المندثرة، مثل السومريين والأكاديين والبابليين والأشوريين والكلدانيين، وغيرهم.
كان مؤلفو هذه الكتب، أو جامعو موادها، مقتنعين بأن الله دعاهم للقيام بهذا العمل، وبأنهم قاموا به بإلهام إلهي؛ وبأنه دعاهم أيضًا لتقديم ما ألفوا أو جمعوا- شفويًا أو كتابة- إلى الشعوب التي عاشوا بينها على أنه إلهام إلهي يحمل رسالة من الله لهم. واعترفت جماعة الإيمان، بالتدرج، وبطرق مختلفة، بأن هذه الكتب تحمل رسالة الله للأجيال المتعاقبة، أي أن هذه الكتب موحى بها من الله. لذلك حظيت هذه الكتب بصفة المقدس.
نستعرض، في ما يلي، هذا “الكتاب المقدس”، فنتكلم بقالب، وصفي وإخباري، عن الأسفار وعددها ومحتواها، وعن رسالة الكتاب المقدس للعالم، وبأي معنى يكون الكتاب المقدس كلمة الله، عن خدمة الكتاب المقدس لعدد من الحقول العلمية، وعن مساهمة الكتاب المقدس في خلق فكر إنساني.
أولًا: الكتاب المقدس كتاب بـ”عهدين”
يُقسم الكتاب المقدس إلى قسمين: “العهد القديم” و”العهد الجديد”. القسم الأول، “العهد القديم”، هو مجموعة الكتب التي كُتبت قبل المسيح، وتحتوي على أخبار وعبادات وأمور دينية أخرى تتعلق بالفترة نفسها. والقسم الثاني، “العهد الجديد”، هو مجموعة الكتب التي كُتبت بعد مجيء المسيح، واعترفت بها الكنيسة بأنها كتابات “قانونية” كمرجع للعقيدة المسيحية والسلوك.
إن كلمة “عهد” تعني هنا نوعًا من “الميثاق” بين الله والإنسان، تم بمبادرة الله وبقبول الإنسان. يشير الله، بموجب هذا العهد، إلى الطرائق المثلى التي على الإنسان أن يطبقها لكي يخلص. فبموجب العهد القديم، تم العهد بين الله والشعب بأن أعطى الله موسى شريعة (توراة) وطلب منه أن يقدمها للشعب لكي يعيش بموجبها فينال رضى الله وبالتالي الخلاص، أي أن الله يكون معينًا له في هذه الحياة، ويعطيه الحياة الأبدية بعد الموت؛ وخُتِم “العهد” بتقديم ذبيحة سُفك فيها الدم، وأصبح دم الذبيحة هو علامة العهد. وأما في العهد الجديد، فقد ختم يسوع المسيح “العهد” (الجديد) بدمه الذي سفكه بموته على الصليب. وعندما رسم يسوع سر الإفخارستيا (العشاء الرباني)، رفع الكأس (كأس الخمر) وقال لتلاميذه الذين كانوا يشاركونه العشاء: “هذا هوَ دَمي، دمُ العَهدِ الّذي يُسفَكُ مِنْ أجلِ أُناسٍ كثيرينَ. لِغُفرانِ الخطايا.” (إنجيل متى 26: 28).
“العهد القديم” هو، كما رأينا، القسم الأول من “قسمي الكتاب المقدس”. هو أيضا، لليهود، “الكتاب المقدس” ومرجعهم الأساس بين مجموعة كتبهم الدينية الأخرى[1].
لقد كُتبت أسفار العهد القديم باللغة العبرية بشكل عام، وهناك بعض المقاطع الصغيرة مكتوبة باللغة الآرامية.
يحتوي العهد القديم على نوعين من الأسفار:
- الأسفار العبرية، هي التي تكوّن الكتاب المقدس العبري، وعددها 39، وتحظى جميعها بقبول كل الكنائس المسيحية.
- الأسفار اليونانية، وعددها 16، تقبلها كل الكنائس على أنها جيدة للقراءة، وتعترف الكنيسة الكاثوليكية، وبعض الكنائس الأرثوذكسية بمرجعية 10 منها. وتعترف بعض الكنائس الأرثوذكسية بمرجعية الكتب الباقية، ويختلف الأمر من كنيسة إلى أخرى.
تُدعى الأسفار اليونانية في الكنائس الإنجيلية أسفار “الأبوكريفا”[2]، بينما تسميها الكنيسة الكاثوليكية “أسفار القانونية الثانية” لأنها أكدت قانونيتها في المجمع التريدنتيني سنة 1545بينما بقية الأسفار كانت قد أقرت قانونيتها في مجمع قرطاجة سنة 397. وهذه الأسفار هي: طوبيا، يهوديت، أستير – يوناني (لاحقة بسفر أستير العبري)، الحكمة، يشوع بن سيراخ، باروخ، رسالة إرميا (لاحقة بسفر إرميا العبري)، دانيال – يوناني (لاحقة بسفر دانيال العبري)، المكابيين الأول، والمكابيين الثاني. ويصبح مجموع أسفار العهد القديم في الكنيسة الكاثوليكية ستة وأربعين (46). وتعترف الكنائس البيزنطية الأرثوذكسية، بالإضافة إلى أسفار القانونية الثانية الكاثوليكية، الأسفار التالية: صلاة منسى، مزمور 151، عزرا الأول، مكابيين الثالث، ومكابيين الرابع. وتوجد اختلافات طفيفة بالنسبة للكتب اليونانية المعترف بها في الكنائس الأرثوذكسية الأخرى غير البيزنطية. وبالخلاصة، العهد القديم هو إذن تقريبًا نفسه في كل الكنائس المسيحية.
مضمون العهد القديم بالإجمال هو قصة تكوين شعب إسرائيل وتاريخه معروضًا بتفسير لاهوتي عبر الحقبات التالية: آباء القبائل التي تكوّن منها شعب إسرائيل، العبودية في مصر، الخروج، المرور في سيناء، دخول أرض كنعان، عصر القضاة أو الثيوقراطية، تأسيس المملكة وملك شاول وداود وسليمان، انقسام المملكة، زوال المملكة الشمالية (إسرائيل)، زوال المملكة الجنوبية ونفي الشعب إلى ما بين النهرين، العودة من المنفى فترة الهيكل الثاني، الحروب اليونانية. ويتخلل هذه المادة التاريخية اللاهوتية، أخبار أنبياء بني إسرائيل، وأمثال وحكم حكمائهم.
يتضمن هذا “العهد القديم”، بحسب ترتيب الأسفار الحالي في الكنائس الكاثوليكية ستة وأربعين سفرًا، وفي الكنائس الإنجيلية، تسعة وثلاثين سفرًا، يمكن تقسيمها إلى أربة أقسام:
- أسفار التوراة
- الأسفار التاريخية
- الأسفار الحكمية
- الأسفار النبوية (الأنبياء)
وهي مرتبة كالتالي:
القسم الأول: كتب التوراة وعددها خمسة. وتسمى هذه المجموعة أيضًا “البنتاتيوكس” (الخماسية)، أو كتب موسى الخمسة كونها تتضمن الشريعة التي أوحيت إلى موسى. ولا خلاف عليها عند المسيحيين كلهم.
السفر | المضمون |
1. التكوين | قصة الخلق؛ قايين وهابيل؛ الطوفان؛ برج بابل؛ قصة إبراهيم وإسحق ويعقوب، الذي دُعي إسرائيل، ويوسف: ذهاب يعقوب (إسرائيل) وأولاده إلى مصر. |
2. الخروج | أخبار حياة العبودية التي عاشها بنو إسرائيل في مصر، قصة الخروج من مصر وتأسيس عيد “الفصح” (العبور والتحرر)؛ الله يقيم العهد مع بني إسرائيل ويسلم موسى الشريعة (التوراة)؛ موسى يبني خيمة الاجتماع (الهيكل المتنقل) في صحراء سيناء |
3. اللاويين | أنواع الذبائح والتقدمات للتقرب بها من الله؛ شريعة الطاهر والنجس من الحيوانات والأمراض والعادات؛ التقويم الديني السنوي والأعياد؛ شريعة اليوبيل. |
4. العدد | موسى يعدّ الشعب وهو في صحراء سيناء؛ أخبار رحلات بني إسرائيل في الصحراء خلال أربعين سنة؛ بعض الشرائع |
5. التثنية | إعادة لأهم الشرائع من أجل الجيل الجديد؛ وصول بني إسرائيل إلى حدود أرض كنعان، موت موسى ودفنه دون أن يدخل أرض الموعد. |
القسم الثاني: الأسفار التاريخية (15) عند الكاثوليك، و(12) عند الإنجيليين. كتب القانونية الثانية في هذا القسم هي: طوبيا، يهوديت، لاحقة أستير (موضوعة مع سفر أستير)، المكابيين الأول، المكابيين الثاني.
السفر | المضمون |
1. يشوع | بنو إسرائيل يحتلون أرض كنعان بقيادة يشوع؛ يشوع يقسم الأراضي على قبائل بني إسرائيل؛ يشوع يجدد العهد بين الله وبني إسرائيل ثم يموت. |
2. قضاة | القبائل الإسرائيلية في كنعان في حالة فوضى دينية واجتماعية؛ يُستعبدون لبعض الشعوب المحلية، فيصرخون إلى الله الذي يرسل لهم قاضيًا مخلصًا (القاضي حاكم ديني ومدني لذلك يُوصف حكمه بالثيوقراطية)؛ وتتكرر الحادثة. أهم القضاة دبورة، جدعون، وشمشون. |
3. راعوث | قصة عن عائلة إسرائيلية انتقلت من بيت لحم (بيت الخبز) إلى موآب (أرض وثنية) بسبب الجوع؛ شاب من العائلة يتزوج فتاة موآبية تُدعى راعوث. يموت رب العائلة وولداه، وتمسي نُعمي (ربة العائلة) وراعوث أرملتين؛ تعود الأرملتان إلى بيت لحم، حيث تتزوج راعوث فتى من أصحاب الشأن وتصبح جدة الملك داود. |
4. صموئيل الأول والثاني | أخبار القبائل الإسرائيلية في آخر عصر القضاة؛ صموئيل آخر القضاة ينتخب للشعب ملكًا (بداية الملكية) هو شاول. يبرز في بلاطه داود الذي يصبح ملك إسرائيل بعد موت شاول؛ يوسع داود حدود المملكة ويحتل مدينة أورشليم (القدس) ويجعلها عاصمة إسرائيل؛ ويقيم الله معه عهدًا بأن يكون ملك إسرائيل دائمًا من نسله. تكون نهاية ملك داود مضطربة إذ تحدث مشاكل كبيرة في العائلة المالكة. |
5. الملوك الأول والثاني | يموت الملك داود فيتسلم الملك سليمان المعروف بحكمته؛ وهو الذي يبني الهيكل في أورشليم؛ في نهاية ملكه تنقسم المملكة إلى مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب. تقوم في إسرائيل عدة سلاسل ملوكية وتتبدل السلاسل عن طريق الثورات؛ بينما يكون الملك في يهوذا دائمًا من سلالة داود بحسب العهد. تنتهي مملكة إسرائيل سنة 721 ق.م. باحتلالها من قِبَل الآشوريين؛ تنتهي مملكة يهوذا سنة 586 ق.م. باحتلالها من قِبَل الكلدانيين الذين يخربون مدينة أورشليم ويهدمون الهيكل وينفون السكان إلى بابل في بلاد الرافدين. يتخلل الأخبار التاريخية أخبار بعض الأنبياء وأهمهم إيليا وأليشع. |
6. أخبار الأيام الأول والثاني | إعادة لتاريخ إسرائيل، منذ بداية البشر وحتى المنفى، كما رآه كهنة إسرائيل. فيه تكرار لكثير من الأخبار الواردة في سفري الملوك؛ يتضمن السفر فقط أخبار الملوك من سلالة الملك داود. |
7. عزرا | سيرة عزرا الكاهن الذي كان في المنفى؛ جمع أسفار الشريعة (التوراة)؛ استحصل على ترخيص من ملك الفرس (الدولة العظمى آنذاك) لإعادة بناء الهيكل في أورشليم، وكان ملك الفرس أمر بعودة جميع المنفيين إلى بلادهم؛ عاد إلى أورشليم سنة 538 مع العائدين من المنفى؛ سهر على ترميم الهيكل وعودة الشعائر الدينية إليه وعلم الشعب الشريعة الموسوية. كان متحمسًا للعرق الإسرائيلي للمحافظة على الوحدانية. يُعتبر هو ونحميا مؤسسي اليهودية. |
8. نحميا | سيرة نحميا الذي كان خادمًا لملك الفرس؛ لاحظ هذا على خادمه حماسة للعودة إلى أورشليم، فأطلقه محملًا إياه مساعدات. عاد نحميا إلى أورشليم حيث شدد الشعب وحثه على إعادة البناء، فقام على ترميم سور المدينة؛ تقابل مع عزرا وعمل الإثنان معًا على ترميم الحياة الدينية. |
9. أستير | قصة فتاة يهودية اسمها أستير تكون أداة بيد الله لخلاص شعبها من الإبادة. |
10. طوبيا | طوبيا ابن لوالدين أتيا من أسرتين نُكبتا في النفي، مر في مخاطر كبيرة خلصه الله منها واستخدمه لشفاء والديه وإعادة رغد العيش لهما. |
11. يهوديت | يهوديت أرملة جميلة، تخلص شعبها ومدينتها بحكمتها وشجاعتها من عدوهم الذي هو ملك الآشوريين. |
12. المكابيين الأول والثاني | أخبار حروب اليهود ضد اليونانيين، خلال القرن الثاني ق.م. عندما أراد اليونانيون أن يغيروا العادات والتقاليد الدينية اليهودية بالقوة. |
القسم الثالث: الأسفار الشعرية والحكمية، وهي (7) عند الكاثوليك، و(5) عند الإنجيليين.كتب القانونية الثانية في هذا القسم هي: الحكمة ويشوع ابن سيراخ.
السفر | المضمون |
1. أيوب | حوار فلسفي يدور حول قصة شخص تقي، هو أيوب، خسر كل ما يملك، وصحته أيضًا: هل تحل المصائب بالأتقياء أم أنها تأتي نتيجة اقتراف الخطايا؟ لا أحد يستطيع أن يفهم الله. |
2. المزامير | مجموعة أناشيد وصلوات كانت تُرتل أثناء العبادة في الهيكل وفي مناسبات دينية أخرى. |
3. الأمثال | مجموعة حِكَم وأمثال تُرشد الإنسان إلى العيش السعيد، وأهمها مخافة الله وتطبيق شرائعه. |
4. الجامعة | حوار فلسفي يدور حول معنى الحياة وفائدتها، وما يميز الإنسان عن الحيوان: فقط الله يعطي الحياة معنى. |
5. نشيد الأناشيد | مجموعة أناشيد حب يمكن أن تشكل قصة حب بين ملك وفتاة بسيطة ترمز إلى حب الله لشعبه. |
6. الحكمة | مجموعة حِكَم وأقوال فلسفية تدور حول المصير البشري عند الله، الثناء على الحكمة، وتأمل في حدث الخروج من مصر وأحداث صحراء سيناء. |
7. يشوع بن سيراخ | كان ابن سيراخ أحد وجهاء أورشليم ومحبًّا لشريعة الله جمع خلاصة خبراته الحياتية في أمثال وحِكَم. |
القسم الرابع: أسفار الأنبياء، وهو قسمان: الأنبياء الكبار، وهي (6) عند الكاثوليك، و(5)، عند الإنجيليين: يوجد سفر واحد من القانونية الثانية: سفر باروخ، ولاحقة دانيال؛ الأنبياء الصغار وعددها (12).
السفر | المضمون |
الأنبياء الكبار | |
1. إشعيا | أقوال نبوية تعود إلى القرن الثامن والرابع والثالث ق.م. تتضمن توبيخًا للشعب بسبب عبادته الآلهة الوثنية، وحثًا على العودة إلى الله الإله الحقيقي الوحيد؛ وعد بالعودة من المنفى؛ وعد بالعصر المسياوي السعيد. |
2. إرميا | أقوال نبوية تتضمن حثًا على الابتعاد عن الوثنية وتعدد الآلهة والرجوع إلى الله الواحد؛ تقديم النصح للشعب المحاصر من قبل الكلدانيين بالقبول بالأمر الواقع والذهاب إلى المنفى والرجوع إلى الله حتى يصنع لهم “عهدًا جديد” ويعيدهم إلى أرضهم. |
3. مراثي إرميا | مجموعة مراثي (أناشيد حزينة تُغنى في مناسبات الموت والدفن) بسبب خراب أورشليم |
4. حزقيال | مجموعة رؤى نبوية تصوّر كيف يذهب الله مع شعبه إلى المنفى ويعود ويحييهم ويعيد بناء الهيكل والمدينة المقدسة بمقاييس فردوسية. |
5. دانيال | دانيال شاب تقي، نبيه، اختصاصي في تفسير الأحلام النبوية، يقع في الأسر ويُقتاد إلى المنفى، حيث يبقى أمينًا لعبادة الله الواحد فيرفض أن يعبد آلهة الكلدانيين؛ يخلصه الله من “جب الأسود” ويعطيه رؤى تتعلق بإقامة ملكوت الله ومجيء المسيا. |
6. باروخ | باروخ هو كاتب النبي إرميا، ذهب إلى المنفى ووجّه رسالته إلى الشعب الذي بقي في أورشليم بعد أن احتلّها الكلدانيون. تتضمن الرسالة اعترافًا بالخطايا وتشجيع الشعب على التمسك بالرجاء. |
الأنبياء الصغار | |
1. هوشع | يأمر الله هوشع بالزواج من امرأة زانية ويقدم لها فرصة للتوبة والإخلاص له، لكنها تعود إلى زناها: هي صورة عن الله وشعبه؛ لقد أحبّ الله شعبه والتصق به بإقامة العهد، لكن شعبه اقترف خيانة كبيرة بالذهاب وراء آلهة وثنية. |
2. يوئيل | تصوير رؤيوي: صورة الجراد يضرب أرض إسرائيل تتماهى مع صورة لجيش الأشوريين يهاجم أرض إسرائيل؛ يرفع النبي يوئيل صلاة إلى الله، ويقدّم للرب رسالة رجاء وخلاص. |
3. عاموس | يقدّم النبي عاموس أقوالًا نبوية موجهة خاصة إلى المسؤولين والكهنة يوبخهم فيها على الظلم الاجتماعي؛ ثم يقدّم رؤى نبوية تحمل رسالة رجاء للشعب. |
4. عوبديا | رؤيا نبوية تلقاها النبي عوبديا تتعلق بدينونة أدوم قرب مجيء اليوم الذي يدين فيه الله الشعب. |
5. يونان | يرسل الله نبيّه يونان إلى نينوى، المدينة الآشورية الوثنية لكي تتوب وتأتي إلى الله، لكن يونان يهرب ويتوجه إلى مكان آخر. تضرب عاصفة السفينة التي تقلّه ويتبيّن أنه بسببه؛ يُرمى في البحر؛ يبتلعه حوت، يصلّي صلاة توبة، يقذفه الحوت خارجًا، يذهب إلى نينوى ويتوب أهلها ويرجعون إلى الله الواحد. |
6. ميخا | يقدّم النبي ميخا أقوالًا نبوية يوبّخ فيها الشعب على الظلم الاجتماعي، فيتواجه مع المسؤولين والكهنة ويحثّهم على طاعة الله وتطبيق أعمال الرحمة التي هي أهم من الطقوس. |
7. ناحوم | صوّر النبي ناحوم دمار مدينة نينوى، عاصمة الآشوريين بسبب خطاياهم. |
8. حبقوق | هدد الغزو الكلداني شعب الله، فصلى النبي حبقوق إلى الله، وحث الشعب على التوبة والتمسك بالرجاء. |
9. صفنيا | يقدم النبي صفنيا أقوالًا نبوية تتكلم عن دينونة الله لشعب إسرائيل والشعوب المجاورة ثم يعود ويبني أورشليم على أساس عهده وشريعته. |
10. حجّاي | عاد الشعب من المنفى وشرعوا في إعادة بناء الهيكل، لكنهم أُحْبِطوا أمام الصعوبات، فجاء النبي حجّاي يشجعهم على الاستمرار حتى النهاية. |
11. زكريا | يقدم النبي أقوالًا ورؤى نبوية تتكلم عن إعادة العبادة إلى الهيكل الذي أُعيد بناؤه حديثًا، ووعد الله الصادق بالعصر المسياوي السعيد. |
12. ملاخي | يعالج النبي ملاخي المشاكل التي نشأت في الهيكل بعد عودة الشعب من المنفى وإعادة بنائه، فيحثّ الشعب على التوبة والكرم في العطاء وإلا فدينونة الله قادمة لا محالة. |
تغطي مادة العهد الجديد الحقبة التي تبدأ بمجيء المسيح وحتى نهاية القرن الأول.
يتضمن العهد الجديد 27 سفرًا، ووحدها المقبولة كأسفار مرجعية عند كل المسيحيين. ينقسم العهد الجديد إلى أربعة أقسم:
- الأناجيل الأربعة
- سفر أعمال الرسل
- الرسائل
- سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي
القسم الأول: الأناجيل الأربعة، وتحتوي على حياة يسوع مستعرضة استعراضًا لاهوتيًا
السفر | المضمون |
1. إنجيل متى | سيرة انتقائية ليسوع المسيح بمنظور لاهوتي حيث تعاليم يسوع والدلالة اللاهوتية تسيطر على الحدث التاريخي. غرض كاتب إنجيل متى هو أن يبرهن لليهود بأن الحدث المسيحاني هو تتميم لما جاء في العهد القديم. |
2. إنجيل مرقس | سيرة انتقائية ليسوع المسيح بمنظور لاهوتي. ينقل إنجيل مرقس لقرّائه رؤية بطرس لأحداث حياة المسيح؛ وغرض الكاتب هو أن يبرهن بأن خلاص الله بيسوع المسيح يشمل، بالإضافة إلى اليهود، الشعوب الأخرى. |
3. إنجيل لوقا | سيرة انتقائية ليسوع المسيح بمنظور لاهوتي. ينقل إنجيل لوقا لقرّائه رؤية بولس وتفسيره لأحداث حياة يسوع المسيح. يقدّم إنجيل لوقا لقرّائه رؤية أممية (غير يهودية) لله وإرساله يسوع المسيح. |
4. إنجيل يوحنا | سيرة انتقائية ليسوع المسيح بمنظور لاهوتي. ينقل كاتب إنجيل يوحنا لقرّائه تفسير أحداث حياة يسوع المسيح بمنظور صوفي أو باطني عميق. |
القسم الثاني:
السفر | المضمون |
أعمال الرسل | يحتوي على أخبار خدمة الرسل وخاصة بطرس وبولس. القسم الأكبر مخصص لأخبار بولس حيث ذهب في أربع رحلات تبشيرية وأسّس خلالها الكثير من الكنائس. |
القسم الثالث: الرسائل
السفر | المضمون |
رسائل بولس الرسول | |
1. الرسالة إلى روما | تحتوي على تعليم لاهوتي منظّم عن الإنجيل والخلاص والتبرير بنعمة الله، والصراع الداخلي بين الجسد والروح، والاختيار، والدعوة، و”إسرائيل الجديدة” أي الكنيسة، والمواهب الروحية، والحياة العملية. |
2. الرسالة الأولى إلى كورنثوس | يردّ فيها بولس على أسئلة كان المسيحيون في كورنثوس قد طرحوها عليه أو عارضوه فيها مثل العلاقات والزواج، أكل لحوم الذبائح التي قُدمت للأوثان، الإفخارستيا، خدمة المرأة، المواهب الروحية وخاصة التكلّم بالألسنة والمحبة الحقيقية. |
3. الرسالة الثانية إلى كورنثوس | هي كالرسالة الأولى، يردّ بولس على أسئلة الكورنثيين، فيتناول موضوع الجهاد في خدمة المسيح، ذبول الجسد وتجدّد الروح حتى الموت، العطاء، خبرة صوفية. |
4. الرسالة إلى غلاطية | يواجه بولس بحزم اليهود المسيحيين الذين يريدون أن يُهَوِّدوا المهتدين إلى المسيحية من غير اليهود، فيبيّن لهم أن العمل بالشريعة الموسوية انتهى بالمسيح الذي أضحى وحده الوسيلة للخلاص. |
5. الرسالة إلى أفسس | فكر بولس اللاهوتي في الكنيسة والدعوة؛ وتوصيات للجهاد الروحي والحياة المسيحية. |
6. الرسالة إلى فيليبي | بولس يحثّ هذه الكنيسة على تبنّي فكر المسيح، وخاصة التواضع الذي رأيناه في تجسّد المسيح في صورة العبد الخادم. والتواضع يقود إلى الكِبَر الحقيقي والانتصار. |
7. الرسالة إلى كولوسي | بولس يردّ على الغنوسيين الذين ينكرون التجسّد، فيرفض طرقهم المبنيّة على المعارف الباطنية (العرفان) ويُري كيف أن الكون كلّه خُلق بيسوع وليسوع. |
8. الرسالة الأولى إلى تسالونيكي | بولس يصحح الآراء المغلوطة التي انتشرت والمتعلقة بالمجيء الثاني للمسيح والقيامة. |
9. الرسالة الثانية إلى تسالونيكي | بولس يعالج الموضوع نفسه كما في الرسالة الأولى؛ ثم يحثّ الكسالى على العمل والاجتهاد لأن “من لا يعمل لا يأكل”. |
10. الرسالة الأولى إلى تيموثاوس | بولس يرسل إلى تيموثاوس، ابنه الروحي الذي أصبح أسقف أفسس، تشجيعه ونصائحه لخدمة أفضل، مع مواصفات لما يجب أن يكون عليه القسوس والأساقفة. |
11. الرسالة الثاني إلى تيموثاوس | بولس يرسل كلماته الأخيرة، قبل موته، لتيموثاوس. كلمات وداعية مؤثرة بمثابة “وصية” مهداة إلى بولس في خدمته. |
12. الرسالة إلى تيطس | بولس يرسل تعليماته لتيطس تلميذه وأسقف كريت، ليعرف كيف ينبغي أن يتصرف في شؤون الكنائس. تتضمن الرسالة مواصفات الأساقفة والقسوس والشمامسة. |
13. الرسالة إلى فيليمون | بولس يرسل رسالة إلى صديقه فيليمون بخصوص عبده الهارب أنسيمس طالبًا إياه أن يسامحه لأنه تاب واهتدى إلى المسيحية. |
رسائل أخرى | |
1. الرسالة إلى العبرانيين | الكاتب مجهول، يُعتقد أنه بولس. خدمة العهد القديم ما هي إلا ظلّ للحقيقة التي أتت في المسيح مؤسس العهد الجديد. |
2. رسالة يعقوب | يحثّ يعقوب قارئيه على الإيمان العملي الذي يتجلى بالفضائل المسيحية وأعمال الرحمة ولجم اللسان والتواضع والصلاة الحارة. |
3. رسالة بطرس الأولى | هذه رسالة عامّة يرسلها بطرس للمسيحيين يحثّهم على احتمال المشقات والآلام التي تأتيهم بسبب انتمائهم للمسيح طالبًا منهم أن يتمثلوا بالمسيح. |
4. رسالة بطرس الثانية | بطرس يردّ على الهراطقة، وخاصة الغنوسيين الذين ينكرون التجسّد ومجيء المسيح ثانية، ويحذّر المسيحيين من المعلمين الكذبة. |
5. رسالة يوحنا الأولى | خطاب عميق في المحبة الإلهية. نبذ للغنوسيين الذين ينكرون التجسّد. |
6. رسالة يوحنا الثانية | رسالة شخصية من يوحنا إلى “السيدة المختارة وأبنائها”، هي دعوة إلى المحبة وتحذير من المعلمين الكذبة. |
7. رسالة يوحنا الثالثة | رسالة شخصية إلى “غايس” فيمتدحه ويحذّره من الشرير ديوتريفوس. |
8. رسالة يهوذا | شبيهة جدًا برسالة بطرس الثانية. تحذير من الأنبياء والمعلمين الكذبة |
القسم الرابع: رؤيا يوحنا اللاهوتي
السفر | المضمون |
رؤيا يوحنا اللاهوتي | سفر مليء بالصور الرمزية غرضها تشجيع المسيحيين المضطهدين في الأمبراطورية الرومانية الوثنية وحثّهم على الصبر لأن الانتصار قريب بفعل تدخّل الله المباشر في أحداث التاريخ. |
للكتاب المقدس مكوِّنات متنوّعة، فمنها الطقوس والروايات الدينية والاعترافات والأقوال النبوية؛ ولهذه المكوِّنات مسيرة تاريخية في تكوُّنها بشكل شفوي. ثم وضعت هذه المكوِّنات في نصوص أصبح لها أشكال أدبية وتاريخ.
رأينا بأن للكتاب المقدس عددًا من المؤلفين، وهو تكوَّن على مدى عشرات السنين وتنقّل من مرحلة تأليف الوحدات الأدبية وتواترها الشفوي في الشهادة أو العبادة، إلى مرحلة الكتابة، إلى مرحلة التجميع، إلى مرحلة المراجعة والتحرير، إلى مرحلة القوننة[3] واعتماده في الجماعة الدينية على أنه كتاب موحى به من الله. وهو بذلك يختلف كثيرًا عما يؤمن به المسلمون بشأن تكوُّن القرآن الكريم.
مهمّتنا هنا هي محاولة اكتشاف المحطات الرئيسية في مسيرة تكوّن هذه المكوِّنات وجمعها بشكل كُتب، ثم جمعها في كتاب أصبح يُدعى الكتاب المقدس، والذي يؤمن به المسيحيون بأنه يحتوي على كلام الله الموجّه لهم وللعالم.
للعهد القديم تاريخ معقد لأنه تكوَّن خلال فترة زمنية طويلة (حوالي ألف سنة) انطلاقًا من تقاليد شفوية حتى وتثبيته بالشكل الذي هو عليه اليوم وعبر عدد من المراحل التطورية. أزمتان تاريخيتان كانتا الأهم في تحفيز المسؤولين الدينيين اليهود في تجميع تراثهم الديني للمحافظة عليه: الأزمة الأولى هي السبي البابلي سنة 587 ق.م. عندما احتلّ الكلدانيون مدينة أورشليم هدّموا الهيكل فقضوا بذلك على الديانة ونفوا السكّان إلى بابل. في بابل، وبعد أن أفاق اليهود من أثر الصدمة، استجمعوا قواهم وشرعوا في تجميع كتاباتهم ووثائقهم الدينية لئلا تضيع منهم. الأزمة الثانية هي تدمير هيكل أورشليم مرة ثانية سنة 70 م.، بعد أن كان أعيد بناؤه، وهذه المرّة بيد الرومان. وقتها قُتل عدد كبير من اليهود وطردوا من المدينة المقدّسة (أورشليم) وتشتّت عدد منهم في أصقاع الأرض كلها. تجمّع رجال الدين اليهود في منطقة الجليل، ونظّموا اجتماعًا في مدينة يمنيا، جمعوا خلاله كتاباتهم المقدسة وفرزوها بين كتابات قانونية وكتابات غير قانونية.
شغل موضوع تكوُّن العهد القديم العلماء المتخصصين كثيرًا، فدرسوه بعناية وتعمّق لسنين طويلة. وما نعرضه هنا ما هو إلا خلاصة لهذه الدراسات، وهذه الخلاصة مسلّم بها ومقبولة في كبريات الجامعات والمعاهد المتخصصة وعدد كبير من المرجعيات الدينية. نستطيع أن نقسم تاريخ تكُّون العهد القديم إلى المراحل التالية:
- مرحلة تكوُّن التقاليد الدينية الشفوية.
- مرحلة تكوّن التقاليد الأربعة.
- مرحلة ولادة التوراة.
- مرحلة جمع ومراجعة الأنبياء والكتابات الأخرى.
- مرحلة تكوين قانون الكتاب المقدّس اليهودي.
1/1. مرحلة تكوُّن التقاليد الدينية الشفوية
كان المجتمع الإسرائيلي الذي تكوّنت في وسطه هذه التقاليد مجتمعًا بدويًا قبائليًا قبل أن يتحضر ويستقر في حياة زراعية ثابتة. وعندما استقر في كنعان، انتقل من حياة البداوة إلى حياة الحضر، فعرف الاستقرار ومارس الزراعة، فانتقل من “ديانة بدوية” إلى “ديانة زراعية”. وعندما أصبحت إسرائيل مملكة، تأثر الفكر الديني فيها بالمفهوم “الملكي”. وما يميّز إسرائيل عن غيرها من شعوب الشرق الأدنى القديم هو أن ديانة إسرائيل تضمّنت نواة التوحيد، فانتقلت إلى عبادة الإله القومي في ما يُسمّى “التوحيد القومي”[4] لتنتهي في التوحيد الخالص[5] وعبادة الله الواحد الأحد. بينما شعوب الشرق الأدنى القديم الأخرى غاصت في الوثنية فبادت معها.
لقد درس العلماء أهمهم يوليوس فلهاوزن (Julius Wellhausen)، توفي 1914، وهرمان غونكل (Hermann Gunkel)، توفي 1932- بعمق التراثات الدينية الشفوية التي تكوّنت في كلّ من المجتمعات، البدوية والزراعية.[6]. ووجدوا أن كثيرًا من العادات والتقاليد تأخذ، مع الوقت، صفة المقدّس وتصبح تراثًا دينيًا يتناقله الأبناء عن الآباء لأجيال طويلة، وكل جيل يطوّره بحسب ثقافته ونمط عيشه. من أهم العادات والتقاليد البدوية التي ظهرت في حياة إسرائيل الدينية القديمة: ممارسة تقديم الذبائح، طقوس الطهارة، طقوس الحماية من ضرر الأرواح الشريرة التي تسكن الصحراء، الفصح (العبور) وتخصيص خيمة للعبادة هي بمثابة هيكل متنقل. من أهم العادات والتقاليد الدينية التي تعود للمجتمع الزراعي والتي ظهرت في حياة إسرائيل الدينية: صلوات الاستسقاء، تقدمة الثمار وتكريس الحصاد والغلال، الاحتفال بالهلال الجديد والسنة الجديدة، إلخ. لقد تبنّى آباء إسرائيل الكثير من هذه الطقوس البدوية التي نجدها اليوم في التوارة وقبلها على أنها تراث مقدّس.
إن وجود إسرائيل القديمة في الشرق الأدنى القديم جعلها تقرأ من جديد التراث الديني، النظريات الوجودية بشأن الخلق والحياة والموت على ضوء خبرتها الدينية، ما جعلها تتبنّى أمورًا كانت موجودة قبل مجيئها إلى المنطقة مثل قصة الخلق وقصة الطوفان وهي اليوم موجودة، بقراءتها التوحيدية، في الفصول الأحد عشر الأولى من سفر التكوين. هذه كانت تمارس في إسرائيل في العبادة شفاهة قبل أن تُدوّن وتصبح من تراث العهد القديم المكتوب.
بقيت القبائل الإسرائيلية القديمة تعتمد على تراث ديني شفوي لفترة طويلة قبل أن تدخل الكتابة الحياة العامة، شيئًا فشيئًا، وتبدأ عملية تدوين التراث الديني. وعلى الرغم من ذلك، فقد بقيت الروايات الطويلة محفوظة في الأذهان وتنتقل من جيل إلى جيل حتى القرن الثامن ق.م.
دخلت الكتابة العالم حوالي سنة 3300 ق.م. وكانت الكتابة معقّدة، وتقتصر على الأمور المهمة جدًا، حتى اكتشاف الحروف الهجائية في القرن الثالث عشر ق.م. حين صارت الكتابات تطول. تقول النظرية المحافظة بأن موسى، في هذا العصر، كتب أسفار التوراة. لكن هذا غير ثابت علميًا، ثم أنه يناقض العقل السليم، ليس فقط أنه لم تُكتب وثائق بهذا الطول وهذا الإتقان في عصر موسى، بل لأن التوراة نفسها لا تؤكد هذا الأمر. ففي عصر موسى، لربما كانت بعض الوثائق الدينية موضوعة كتابة مثل الوصايا العشر أو بعض اعترافات الإيمان القصيرة.
1/2. مرحلة تكوّن التقاليد الأربعة
من المسلّم به علميًا أن أهم قسم في العهد القديم هو التوراة. التوراة هي أيضًا أول ما أُنجز من العهد القديم. ومن المتعارف عليه علميًا أن “سفر الشريعة” (عب سِفِر هتّوراه) المذكور في سفري عزرا ونحميا بكثرة هو الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم (تكوين، خروج، لاويين، عدد، تثنية) التي تشكّل التوراة. هذا هو الكتاب الذي عاد به عزرا من المنفى لكي يعلّمه للشعب الذين سبقوه في العودة ولكي يعيد لهم الديانة إلى سابق عهدها. والسؤال الذي طرحه العلماء وناقشوه ودرسوه طويلًا هو “من أين أتت التوراة؟”
كان الرأي السائد هو أن موسى هو من كتب التوراة. لكن ابتداءً من الفرنسي سيمون ريشار (Richard Simon) في القرن السابع عشر، بدأت الشكوك تساور الدارسين. وانكب العلماء على دراسة الموضوع في العمق، وبفضل أسماء لامعة مثل سيمون (Simon) وسبينوزا (Spinoza) من القرن السابع عشر، وأستروك (Astruck) من القرن الثامن عشر، وفلهاوزن (Wellhausen) وغراف (Graff) من القرن التاسع عشر، ظهرت نظرية تقول إن مصدر التوراة يعود إلى أربعة تقاليد، كل منها تكوّن في سياق ديني وثقافي مختلف واكتسب خصوصيّة تميّزه عن التقاليد الأخرى. وفي خطوة لاحقة، في وقت ما أثناء السبي، جُمعت التقاليد الأربعة معًا، وخضعت مجموعة التقاليد لعمل تحريريّ كبير لتكون نوعًا من تاريخ إسرائيل الديني وشريعته، وما هذا العمل سوى التوراة كما نعرفها اليوم. هذه هي النظرية الأساسية المتّفق عليها بين العلماء، لكن توجد تفاصيل كثيرة مختلف عليها. أما التقاليد الأربعة فهي التالية:
يُرمز إليه، في المراجع الغربية، بالحرف (J)[7] وهو عبارة عن النصوص التي تستعمل “يهوه” كاسم لله. والتقليد اليهوهي هو النصوص الموجودة في (تك 2- عد 22 – 24) والبعض ينسب قصة موت موسى (تث 34) إلى هذا التقليد. نشأ التقليد اليهوهي في يهوذا ما بين سنة 950 و850 ق. م. بعناية الملك داود والملك سليمان.
يتضمن هذا التقليد رواية قبائل بني إسرائيل وتكوّنهم في قوميّة واحدة هي “الإسرائيلية”، وذلك بالمنظار اللاهوتي: تقول الرواية بأن الله (المدعو في الرواية “يهوه”) خلق الكون حسنًا، لكن الإنسان سقط في الخطيئة فسبّب اللعنة، أنزل الله الطوفان لكنه خلّص نوح وأهل بيته. دعا الله سام واختار منه إبراهيم، ثم اسحق، ثم يعقوب الذي دعاه إسرائيل. ونزل “بنو إسرائيل” إلى مصر، حيث أصبحوا عبيدًا، ثم أرسل الله موسى فحرّرهم وخرجوا من مصر باتجاه كنعان، توقّفوا في جبل حوريب، وهناك صنع الله معهم عهدًا وأعطى الشريعة لموسى، وبنى موسى هيكلًا متنقّلًا. وارتدّ الشعب عن عبادة الإله يهوه، فتاه في صحراء سيناء لمدة أربعين سنة قبل أن يصل إلى كنعان.
ويتميز هذا التقليد بأسلوب أدبي روائي، وبتصوير الله بصور مجسّمات بشرية وبأنه مبني على خلفيّة “قصد” الله واستمراريته الذي يبدأ بالخليقة ويستمرّ في الآباء فإلى إسرائيل دوره كشعب وصولًا إلى “الملكية” في عهد داود.
يُرمز إليه، في المراجع الغربية، بالحرف (E)[8]. تستعمل نصوص هذا التقليد “إلوهيم” كاسم لله قبل أن يكون اسم “يهوه” معروفًا (رج خروج 3: 6) ثم بعد ذلك تستعمل الاثنين: “يهوه-إلوهيم”. نشأ هذا التقليد في الشمال ما بين سنة 700 و750 ق. م. نصوص هذا التقليد مبعثرة في التوراة لكن تبقى في إطار “رواية بني إسرائيل” كما رواها التقليد اليهوهي.
ويتميز بأنه يعطي أهمية خاصة لبيت إيل وشكيم، كمراكز دينية، ولقبيلتي إفرايم ومنسّى الخارجتين من يوسف.
يُرمز إليه، في المراجع الغربية، بالحرف (D)[9]. يتضمن هذا التقليد مادة سفر “التثنية”. أسلوب هذا السفر مميّز، فهو نثر روائي وعظي، يستخدم فيه الكاتب قصص الماضي المتعلقة ب”الخروج” و”التيهان” و”الشريعة” و”العهد” ويحوّلها إلى دروس روحية وأخلاقية ليتعظ منها القارئ في الحاضر. هذا التقليد هو عبارة عن موعظة طويلة أو مواعظ عديدة متصلة بعضها ببعض. ويُنسب إلى هذا التقليد أيضًا كل ما هو بنفس الأسلوب في الأسفار التاريخية من يشوع حتى الملوك الثاني. يشدّد هذا التقليد على مركزية العبادة، (القيام بمراسم العبادة وتقديم الذبائح في المعبد المركزي، أي الهيكل في أورشليم) وعلى عبادة الله بقلب مملوء بالحب له. لهذا السفر روحانية مميّزة، فالعبادة تتجاوز الممارسة الطقسية إلى الطهارة القلبية. يقول بعض الاختصاصيين بأن هذا التقليد ظهر (كُتب، جُمع، اكتُشف) في بداية القرن السابع ق. م. ووُجد عند قيام الملك يوشيا بإصلاح ديني، حوالى سنة 624 ق.م. وتجديد العبادة في الهيكل (2ملوك 22)، فأعطى الإصلاح قوة دفع عملية.
يُرمز إليه بالحرف (P)[10] في المراجع الغربية. يُعنى هذا التقليد بأنظمة المؤسسة الدينية في إسرائيل، فيتضمن النصوص التي تشرح شكل المعبد (خيمة الاجتماع أو الهيكل) والأعياد والممارسات والطقوس وشرائع الطهارة والنجاسة وسلاسل النسب لتحديد التاريخ أو من له حق الملك أو الكهنوت. يشدّد على قداسة الله ووجوب احترام طرق العبادة بدقّة حفاظًا على قداسة الله. ويقول الدارسون أن كثيرًا من مادة هذا التقليد، مثل نظام الذبائح (لا 1-7) والطهارة والنجاسة، هي قديمة العهد، جُمعت خلال السبي (550 ق. م. ؟)، بعناية المؤسسة الكهنوتية، في مجموعة واحدة، ووُضعت في إطار الهيكل الثاني[11].
يجمع العلماء الذي يستخدمون مقاربة النقد التاريخي بأنه في أوائل القرن الخامس ق.م. تزعّم الكاهن عزرا جماعة من المتخصصين وجمعوا التقاليد الرائجة المذكورة أعلاه وأعادوا كتابتها بقالب “رواية واحدة” تحكي قصة “بني إسرائيل” وعبادتهم وشريعتهم، وكانت النتيجة كتاب التوراة. في سفري عزرا ونحميا، اللذين يعودان إلى القرن الخامس، يكثر ذكر عبارة “كتاب الشريعة” (عب سِفِر هَتُّراه)، من هنا استخلص العلماء أن هذا يدلّ إلى إنجاز التوراة. وعزرا أخذ كتاب التوراة وذهب به إلى يهوذا (فلسطين) ليعلّمها لليهود هناك وليُعيد لهم تأسيس العبادة بحسب تعاليمها.
1/4. مرحلة جمع ومراجعة الأنبياء
أسفار الأنبياء في الكتاب المقدس العبري قسمان: الأنبياء الأولون (يشوع وقضاة وصموئيل والملوك)؛ والأنبياء المتأخرون (إشعيا وإرميا وحزقيال والاثنا عشر). عندما يتفحّص الدارس كل سفر بمفرده سيجد بأن مادة كل سفر تعود إلى تاريخ معين، وكذلك تاريخ الكتابة. حتى أنه من الصعب تحديد تاريخ بعضها إن كان لزمن تكوّن المادة أم تاريخ الكتابة. تتوزّع المواد الموجودة في هذه الأسفار على نوعين أدبيين على الأقل: السرد التاريخي بنظرة لاهوتية، والأقوال النبوية. وهذه الأخيرة قد تكون قد أتت لتفصح عن رؤى أبوكاليبتية أو خطب وأمثال ومواعظ تفوه بها الأنبياء.
غني عن القول بأن مواد السرد التاريخي نمت شفويًا في البداية وانتقلت من جيل إلى جيل بالتواتر حتى وضعت كتابة في زمن ما. وكذلك الأقوال النبوية، فالأنبياء لم يكونوا يكتبون ما يتفوّهون به، بل كان يُكتب بعد موتهم بزمن بواسطة تلاميذهم أو حلقة مدرستهم الفكرية. لذلك لم تصلنا أقوال بعض الأنبياء المذكورين هنا وهنالك في العهد القديم لأنه لم يوجد مَن وضعها كتابة فضاعت في غياهب النسيان، مثلًا ميخا بن يملة (1 مل 22: 9 وت).
نستنتج من دراسة آداب الشرق الأدنى القديم والمجتمعات الساميّة بشكل عام بأن مواد هذه المجموعة كانت تتكوّن تدريجيًا وتنتشر بين الناس شفويًا. كانت هذه المواد تختزن في ذاكرة الحُفّاظ الاختصاصيين، هؤلاء كانوا يروونه للناس في المواسم والأعياد والمناسبات الدينية. وعندما شُرع في وضع هذه المواد كتابة، لم توضع كلّها مرة واحدة، بل كانت توضع تدريجيًا وبشكل وثائق متفرقة. وكان أحيانًا يوجد أكثر من نسخة واحدة عن القصة والخبر. إن ما نكتبه هنا عن مجموعة الأنبياء، سبق وقلناه عن تكوّن التوراة، وهو ينطبق كذلك على تكوّن المجموعة الثالثة (الكتابات الأخرى) وكل الكتابات القديمة في منطقة الشرق الأدنى.
من المستحيل معرفة متى كانت كل القصص والأخبار موضوعة كتابة. لكن، نستشفّ من القراءة الدياكرونية لهذه النصوص بأنها جمعت على مراحل. وبقيت هذه المجموعة مفتوحة حتى سنة 400 ق.م. التاريخ الذي وضعه اليهود لختم النبوّة. لذلك عندما وُضع سفر دانيال كتابة سنة 165 ق.م. لم يكن بالإمكان ضمّه لهذه المجموعة لأنها كانت “مقفلة”. وعلى الرغم من كونه كتابة نبوية، وُضع في مجموعة الكتابات الأخرى التي بقيت مفتوحة حتى نهاية القرن الأول للميلاد تقريبًا. وبناء على هذا التقليد، نستطيع أن نقول بأن مجموعة الأنبياء كانت منجزة حوالى نهاية القرن الخامس.
1/5. تكوّن مجموعة “الكتابات الأخرى”
اكتسبت هذه المجموعة، ما عدا سفر المزامير، السلطة الأضعف في إسرائيل. بالنسبة لبعض أسفار هذه المجموعة، مثل دانيال، واضح أنه كُتب في وقت متأخر (بعد سنة 165 ق.م.)، وبعضها الآخر، مثل نشيد الأنشاد، أُدخل إلى المجموعة بعد نقاشات حامية بين قادة المؤسسة الدينية بين اليهود. غير أنه في سفر المزامير وسفر الأمثال توجد نصوص غارقة في القدم في تاريخ إسرائيل، مثل مز 29 ومز 68، فهذه ربما تكون قد اقتبست عن الأدب الكنعاني بعد أقلمتها مع المناخ التوحيدي.
في العهد الجديد، لم تكن عبارة “كِثوفيم” (الكتابات) قد أُطلقت على هذه المجموعة، بل كانت تُدعى “المزامير” كون سفر المزامير هو الأطول والأكثر شهرة بين أسفار المجموعة.
من الصعب الوقوف على معرفة كيفية تكوّن هذه المجموعة بدقّة. غير أننا لا نخطئ إذا اعتبرنا أنها بقيت مفتوحة لكلّ تغيير حتى إثبات “قانون الكتاب المقدس العبري” في نهاية القرن الأول للميلاد على ما يُعتقد، وهذا ما سنتكلّم عنه.
1/6. مرحلة تكوين “قانون” الكتاب المقدّس اليهودي
يذكر العهد الجديد “الكتاب المقدّس” العبري (العهد القديم) تحت أسماء مختلفة: الكتاب، الكتب، كلمة الله. ويُفيد بأنها تحتوي على ثلاثة أجزاء: “موسى” و”الأنبياء” و”المزامير (لوقا 24: 44). يدلّ موسى على “التوراة”، و”المزامير” هو السفر الأول في مجموعة الكتابات الأخرى، فيتّضح بذلك أن الكتاب المقدّس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: توراه (موسى) ونيفيئيم (الأنبياء) وكيثوفيم (الكتابات). وقد أكّد كل من المؤرخ اليهودي يوسيفوس[12] وفيلو الاسكندري (القرن الأول م.) ويشوع بن سيراخ[13] (نهاية القرن الثاني ق.م.) وحفيده[14] (بداية القرن الثاني م) هذا التقليد وقدّموا لائحة بالأسفار التي يعترف بها اليهود وهي تلك التي يتألّف منها الكتاب المقدّس العبري أو العهد القديم الإنجيلي. ويتكلّم يوسيفوس عن الصفة المرجعية لهذه الكتب.[15]
والجدير بالذكر هنا، أنه كان لليهود كتابات أخرى غير معترف بمرجعيّتها. وعندما تُرجم الكتاب المقدّس اليهودي إلى اللغة اليونانية، خلال القرن الثاني ق.م. في الترجمة المسمّاة “السبعينية”، تُرجمت هذه الكتب معها. وعندما جال المسيحيون يبشّرون، كانوا يستخدمون هذه الترجمة. وكردّة فعل ضد التبشير المسيحي، بدأ اليهود برفض الترجمة السبعينية وبرزت الحاجة لمناقشة تحديد الكتب المرجعية أو القانونية. لكن “قانون” العهد القديم، لم يُقرّ بين ليلة وضحاها. برزت خلافات كبيرة حالت دون بتّ سريع لهذا الموضوع.
لكن الحرب الرومانية ضد اليهود، واقتحام تيطس الروماني مدينة أورشليم وتدميره الهيكل وحرق المدينة جعل اليهود يتنبّهون إلى موضوع كتبهم المقدّسة. وما زاد الموضوع أهمية كان استخدام المسيحيين لهذه الأسفار بشكل عشوائي (بحسب رأي اليهود) الأمر الذي يستدعي التبحّر في هذا الموضوع سريعًا واتخاذ القرار المناسب. ولا نعرف متى اجتمع اليهود وأقرّوا هذا القانون الموجود اليوم في الكتاب المقدّس العبري. ولملء الفراغ، سعى بعض المجتهدين إلى اقتراح بأن هذا تمّ في مجمع يمنيا الذي عقده اليهود حوالي سنة 90 ميلادية. لكن لا نعرف الشيء الكثير عن هذا المجمع، ولا عن أعماله، ولسنا متحققين بأن القرار بشأن القانون أخذ في هذا المجمع[16] لكن نعرف أن الكتب المقبولة أصلًا ككتب مرجعيّة بقيت هكذا. واشتدّت الصراعات اليهودية الرومانية وأُهمِل موضوع القانونية.
1/7. تثبيت لفظ نصوص العهد القديم
كتبت نصوص العهد القديم أصلًا بالحروف الصامتة من دون أية أدوات لضبط اللفظ (نقط وحركات وحروف)، ولم تكن النقط والحركات معروفة قديمًا، ودون فصل بين الكلمات، وكان الفصل بين الحروف لتكوين كلمات و”تحريك” حروفها الصامتة يعتمد كثيرًا على القارئ. ثم ما بين سنة 150 ق. م. و150 م. ، قسّمت الحروف في النصوص إلى كلمات وتركت مسافة بين كلمة وأخرى.
بقي الحال هكذا حتى، اعتبارًا من القرن السادس م.، بادر فريق من العلماء اليهود التقليديين المدعوين “الماسوراه” – و”الماسوراتيون”[17] هو الشكل العربي للكلمة – فشرعوا يضعون الحركات على الحروف، ولهذا يسمى نص العهد القديم العبري “النص الماسوراتي”. من المهم جدًا التكلّم ولو باختصار عن النص الماسوراتي للعهد القديم إذ أن ترجماتنا الحالية، وإلى مختلف اللغات الحديثة، تستند على هذا النص بالدرجة الأولى.
إبّان الجدالات اللاهوتية التي دارت بين الكاثوليك والإصلاحيين في القرن السادس عشر، رفض هؤلاء أي برهان قدّمه الكاثوليك يرتكز على نص من أسفار غير موجودة في الكتاب المقدّس العبري؛ ما دفع الكاثوليك إلى إعادة فتح موضوع “قانون الكتاب المقدّس” وكانت نتيجة البحث، أن الكاثوليك ثبّتوا قانون العهد القديم في مجمع ترانت المنعقد سنة 1545، فأكّدوا اعترافهم بكتب الكتاب المقدّس العبري بالإضافة إلى اعترافهم بعدد من الكتب، التي كانت من خارج الكتاب المقدس العبري، على أنها كتب قانونية تتمتع بالصفة المرجعية. لذلك سُميت “الكتب القانونية الثانية” وهذه الكتب هي: طوبيا، يهوديت، باروخ، 1مكابيين، 2 مكابيين، الحكمة، يشوع بن سيراخ، ولاحقة بسفر أستير، ولاحقة بسفر دانيال.
لقد تمّت كتابة أسفار العهد الجديد بعد موت وقيامة المسيح بوقت طويل؛ وبعد فترة طويلة من شروع تلاميذه ورسله الأول بنشر “الخبر السارّ” (الإنجيل) وتأسيس الكنائس المحلية حيث مارسوا الوعظ والتعليم.
حدثان تاريخيان ساعدا في انطلاقة الكنيسة وبداية نشاطها: الأول هو موت يسوع، والثاني اعلان الانجيل (سيرة يسوع وتعاليمه) من قبل أتباعه. ومع ذلك، فإن الربط بين هذين الحدثين لا يمكن رصده بالمنظور التاريخي، ولكن بالمنظور الإيماني : يكتشف التلاميذ بأن هذا الرجل، يسوع الذي مات صلبًا بحكم بيلاطس البنطي، لم يزل يقتحم حياتهم ووجدانهم، وقالوا أنه قام، وتراءى لهم في ظروف مختلفة، ثم أخيرًا ارتفع عنهم، لكن ليس قبل أن يسلمهم مسؤولية نشر رسالته، فصاروا، بقوة روحه، شهود قيامته. إن هذا كلّه جعلهم يؤمنون بأن يسوع هذا هو “المسيا” (المسيح) الذي وعدهم الله بمجيئه في آخر الأيام، وذلك بحسب ما هو مدوّن في العهد القديم.
وسوف تتضمّن كتابات العهد الجديد، بعد وقت، هذه الخبرة الروحية، وخاصة حياة يسوع وموته وقيامته وتعاليمه في ضوء هذه الخبرة. فيسمّون رسالة يسوع “الخبر السار”، وهي ترجمة للكلمة اليونانية “إفانجليون” التي أصبحت باللفظ العربي “الإنجيل”. “الإنجيل” هو أولًا رسالة يسوع المسيح الخلاصية، وهذه الرسالة متضمَّنة في سيرة يسوع وتعاليمه، فأصبحت السيرة والتعاليم والرسالة واحد هو “الإنجيل”.
مرَّ تكوُّن العهد الجديد بالمراحل التالية:
- تكوّن التقليد الرسولي
- تكوّن تقليد الرب
- تكوُّن رسائل بولس الرسول
- تدوين تقليد “الرب” أي الإنجيل
- جمع أسفار العهد الجديد وقوننتها
لم يكتب يسوع شيئًا خلال حياته، ولا واحد من تلاميذه كتب له أو كتب عنه. وعندما شرع الرسل في نشر الإنجيل، كانت كل الأخبار عن يسوع في ذاكرتهم. وصار الخبر “التاريخي” عن يسوع يتفاعل مع خبراتهم الروحية. وكان الرسل يشاركون بعضهم بعضًا في ما يعرفون عن يسوع، وفي ما يختبرونه في خدمتهم لرسالته. ومن هذا ولد “التقليد الرسولي”.
عندما تأسّست الكنيسة، وتأسّست كنائس محلية في عدة أمكنة، كان هذا التقليد الرسولي هو المادة التي التفّ حولها شعب الكنيسة وصاروا يتغذّون روحيًا من هذا التقليد ويطوّرونه ويفسّرونه، فنما التقليد باضطراد.
انتظرت الكنيسة أن يعود يسوع إليها قبل انقضاء الجيل الأول من المؤمنين به، لذلك، فلم ينشغلوا كثيرًا بوضع المادة التي يبشّرون بها ويعلّمون منها كتابة. غير أن النقد الكتابي يرى بأنه ظهرت كتابات قصيرة: قصص عن حياة يسوع ومعجزاته، قوانين إيمان مختصرة، أقوال مأثورة، قبل الشروع في كتابة أي سفر. وانتشرت هذه الكتابات القصيرة في أمكنة متعددة. ومضت السنوات العشرون الأولى من عمر الكنيسة دون كتابة أي من أسفار العهد الجديد كما نعرفها اليوم. وكان “الإنجيل” يتناقل من مكان إلى آخر بالتواتر والأخبار الشفوية.
في الحقبة المبكرة من بدايات المسيحية، كان النص المرجعي في أمور الدين عند مسيحيي الجيل الأول يتمثّل في العهد القديم، أي الكتاب المقدّس العبري، لكن بترجمته السبعينية الرائجة على الرغم من أن اللغة المحكية كانت الآرامية، لكن اللغة اليونانية كانت ما زالت لغة الثقافة حتى ذلك الوقت. وسرعان ما ظهر مرجعًا آخر وُضع في التداول في الأوساط الكنسية، وهو “تقليد الربّ”، وكان يُطلق هذا الاسم على كل من التعليم الذي كان يسوع قد علّمه خلال حياته (را 1كو 9: 14)، والتعليم الذي علّمه الرسل بالسلطة المسلمة لهم بواسطة يسوع القائم من بين الأموات (را 2 كو 10: 8 و18). وكان لهذين المرجعين- العهد القديم و”تقليد الربّ” قيمة القياس في كل ما يتعلّق بأمور المعتقد والسلوك. وهذا “التقليد” لم يكن بعد مكتوبًا، فقد تناقلته ألسنة الحفاظ شفويًا مدة طويلة. ولم يشعر المسيحيون الأولون بضرورة تدوين كل ما علّمه المسيح خلال حياته وعلّمه الرسل إلا عندما صارت حياة الرسل والحفاظ على هذا التقليد مهدّدين بالخطر.
سيكون لدخول بولس في المسيحية تأثير كبير في توجيه الأمور ودفعها نحو تدوين “التقليد الرسولي”. لقد تحوّل التعصّب الديني عند بولس عندما كان في اليهودية إلى حماس تبشيري وغيرة دينية وهو في المسيحية. سيقوم بولس بعمل جبار في انتشار المسيحية في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وفي تحريرها من قيود اليهودية وحدودها، وفي إرساء دعائم المنظومة العقيدية لديانته الجديدة. ويعتبر بولس بحق، بعد يسوع المسيح، المؤسس الثاني للمسيحية.
كان بولس أحد أهم الذين اضطلعوا على “تعاليم المسيح” خلال حياته، والتقليد الرسولي الذي نما في الكنيسة قبل اهتدائه إلى المسيحية وتبحّره في تعاليمها. إضافة إلى ذلك، كانت لبولس قراءته “المسيحية” للعهد القديم. وصار هذا الرسول الملهم خزان الفكر المسيحي الذي لم يكن قد دوّن بعد. وصار يصب ّهذا التعليم في عظاته وتعاليمه، وعليه كان يؤسّس الكنائس في كل مكان.
ولما كان بولس يعتبر نفسه مسؤولًا عن الكنائس التي كان يؤسّسها، بل تلك التي أسّسها تلاميذه، كان عليه واجب العمل على تنمية هذه الكنائس في الإيمان عن بُعد. فضلًا عن مواجهة المسيحيين الجدد في هذه الكنائس ظروفًا طارئة لا يعرفون كيف يجب أن يتصرّفوا فيها بطريقة منسجمة مع العقيدة المسيحية، فكانوا يرسلون إلى بولس، يسألونه في كثير من المسائل. وكعادة كل معلّمي ذلك العصر، صار بولس يستعمل طريقة الرسائل، فكتب الكثير منها ووجّهها إلى الكنائس، وكان يطلب أن تُقرأ رسائله في عدد من الكنائس غير تلك التي وجّهت إليها. بل صارت الكنائس تتهافت على الاضطلاع على رسائل بولس التي اكتسبت سلطانًا رسوليًا، وأصبحت تتمتع بصفة المعيار في العقيدة والسلوك المسيحيين. إن عدد الرسائل التي تُنسب إلى بولس وحُفظت حتى أيامنا في كتاب العهد الجديد هو أربعة عشر رسالة إذا اعتبرنا أنه هو كاتب الرسالة إلى العبرانيين.
استشهد بولس حوالي سنة 66 م. ولا نعرف تمامًا عدد الرسائل التي ألّفها هو وكُتبت بعنايته الشخصية. يعتقد دارسو العهد الجديد بأن عددًا من الرسائل المنسوبة لبولس هي من إنتاج تلاميذه، ولا غرو في ذلك، طالما أن التعاليم اللاهوتية المتضمّنة في هذه الرسائل تعكس الفكر البولسي. وانتشرت الرسائل البولسية بسرعة فائقة في الكنائس المسيحية وسرعان ما صارت مرجعًا للكثير من الأمور اللاهوتية والسلوكية.
2/4. تدوين تقليد “الرب” أي الأناجيل
عندما كانت الرسائل البولسية تُقرأ وتُنتشر وتتنقل بين الكنائس، لم يظهر شأن الأناجيل طوال هذه الفترة ظهورًا واضحًا. يجب الانتباه إلى أن الرسائل البولسية تتضمّن الكثير الكثير من أقوال المسيح “الحرفية” وتعاليمه، لكنه من الصعب، بل من المستحيل الجزم في ما إذا كان بولس يأخذ هذه “الاقتباسات” عن كتاب مكتوب أم مما حفظ هو منها أم ما حفظه حفاظ آخرون.كما أن مؤلفات الكتبة المسيحيين الأقدمين تضمّنت أقوالًا وتعاليم للمسيح، لكن عندنا نفس الاستحالة.
ومهما يكن من أمر، فحوالى منتصف القرن الثاني، ظهرت شهادات مكتوبة في كتابات المؤلفين المسيحيين القدماء بأن المسيحيين عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة، لكن لا نعرف كمّيتها وما هي الطريق التي سلكتها في انتقالها من تقليد شفوي إلى تقليد مدوّن. وهنا تدخل الدراسات الكتابية لتعطي رأيًا في هذا الموضوع.
كتب لوقا الإنجيلي في بداية إنجيله بأنه عندما شرع في تأليف كتابه: “إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقَّنة عندنا كما سلّمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخدّامًا للكلمة، رأيت أنا أيضًا، إذ تتبّعت كل شيء من الأول بتدقيق، أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحّة الكلام الذي عُلِّمته” (لوقا 1: 1-4). يقول لوقا بأنه بحث، في إعداد مؤلفه (إنجيل لوقا) عن “الأمور المتيقَّنة”، أي المعلومات الصحيحة التي استقاها من الشهود الأولين الذين عاشوا الأحداث بأم العين، وصاروا خدامًا للشهادة. لقد اضطلع لوقا على “تقليد الربّ” من الذين اختزنوه وحفظوه. وكتب أيضًا في كتاب أعمال الرسل الذي يُظن بأنه هو من كتبه: “الكلام الأول أنشأتُه يا ثوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به إلى اليوم الذي ارتفع فيه…” (أعمال 1: 1-2). يتكلم هنا لوقا عن الكتاب الأول الذي كتبه (الكلام الأول)، أي إنجيل لوقا، المتضمّن “جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلّم به…”
كانت كتابة “الإنجيل” إذًا عبارة عن “بحث علمي” للوصول إلى حقيقة ما علّمه يسوع وفعله. وكان الكاتب الإنجيلي، في هذا العمل البحثي، يضطلع على جميع الأخبار المتعلقة بيسوع المسيح، المنشورة شفويًا أو كتابة، فيتحقّق، بجميع طرق التحقّق الممكنة، من الصحيح منها لكي يضمّه إلى مؤلفه.
تُقسم الأناجيل إلى قسمين: الأناجيل الإزائية (المتشابهة)، أي متى ومرقس ولوقا، وإنجيل يوحنا. يجمع الدارسون على أن إنجيل يوحنا يختلف عن الأناجيل الإزائية في الأسلوب، واللاهوت وبعض المضمون. ويجمع دارسو العهد الجديد بأن إنجيل مرقس هو أول الأناجيل المكتوبة بين الأناجيل الإزائية، وقد كُتب بعد السنة 70 م.، كونه يحتوى على مواد خام لم تحظَ بالصقل والتهذيب كما في الأناجيل الأخرى. أما متى ولوقا، فقد اعتمدا على الرواية المرقسية وعلى تقاليد أخرى وكتبا في فترة لاحقة بعد كتابة مرقس بوقت قصير. يوحنا هو الوحيد الذي عاش حتى نهاية القرن الأول تقريبًا وكتب إنجيله قبيل موته.
ويتكلم الدارسون اليوم عن مدارس لاهوتية- المدرسة المتّاوية والمدرسة المرقسية، والمدرسة اللوقاوية، والمدرسة اليوحناوية- كانت وراء جمع وتحرير ومراجعة الأناجيل حتى وصلتنا إلى ما هي عليه اليوم. وقد تمّت كل المراجعات في النصف الأول من القرن الثاني، وفي كل الأحوال، قبل نهاية القرن الثاني.
ليست كتابات العهد الجديد، عند المسيحيين نوعًا من التقرير اليومي عن حياة يسوع التاريخي، بل هي تقرير عن خبرتهم في مسيرتهم الروحية حيث شرعوا يقلّدون يسوع في ما يعرفونه عنه وبحسب فهمهم الذاتي لسيرة حياة يسوع ولتعاليمه. الإنجيل الذي حمله الرسل وجالوا يبشّرون به لم يكن “كتابًا” بل “شهادة حياة” كانوا يشاركون فيها الآخرين، على مثال يسوع المسيح. وتتضمن شهادة الحياة هذه استذكارًا لسيرة يسوع، وإعادة لتعاليمه، وتقليدًا لمواقفه في شتى الظروف، وكل هذا كما فهموه هم، وعلى ضوء الظروف التي كانوا يمرّون فيها، وكما نما تقليدًا في أوساطهم.
2/5. جمع أسفار العهد الجديد وقوننتها
قلنا أن المسيحيين في بداية أمرهم لم يشعروا بحاجتهم إلى كتاب مكتوب إلى جانب العهد القديم (الشريعة الأنبياء). لكن تقليد “الربّ” الذي نما وانتشر بسرعة، ورسائل بولس التي أخذت تنتشر في كل مكان، دفعا المسيحيين إلى بذل محاولات للحصول على هذه التقاليد كونها نافعة جدًا للنمو الروحي وللكرازة بالإنجيل. وهكذا، ونحو منتصف القرن الثاني، نحا القادة إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة يضعونها قيد الاستعمال إلى جانب “الشريعة والأنبياء” والتقاليد المختلفة المتوفرة. وأغلب الظن أنهم جمعوا، بدايةً” رسائل بولس واستعملوها في حياتهم الكنسية، في حين كانت الرسائل البولسية مدوّنة ومنتشرة بينما كان التقليد الإنجيلي لا يزال في معظمه متناقلًا على ألسنة الحفّاظ. ومهما يكن من أمر، فإن عددًا كبيرًا من الكتّاب المسيحيين أشاروا إلى أنهم يعرفون عددًا كبيرًا من رسائل بولس. ولم تخلُ مؤلفات المسيحين الأقدمين من شواهد مقتبسة عن تقليد “الربّ” أو الأناجيل، أو تلمح إليها، ولكن لم يكن بالإمكان التحقّق من أن هذه الشواهد مأخوذة عن نصوص مكتوبة كانت بين أيدي هؤلاء الكتّاب أم هي استذكار أجزاء من التقليد الشفهي.
كان الشهيد يوستينوس (ت 165م.) أول من ذكر أن المسيحيين يقرأون الأناجيل في اجتماعات الأحد وأنهم يعدّونها مؤلفات كتبها الرسل وهي تتمتع بسلطانهم، لذلك فهم، في استعمالهم إياها، يولونها منزلة “المقدّس”. وسرعان ما اكتسبت أربعة من الأناجيل (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) أهمية خاصة في حياة الكنيسة، ذلك لأنها منسوبة إلى الرسل- متى ويوحنا من الرسل؛ مرقس دوّن تقليد بطرس، ولوقا دوّن تقليد بولس، وبطرس وبولس كلاهما من الرسل المعتبرين- فضلًا عن كونها تتضمّن “تقليد الربّ” (أخبار المسيح) الذي يتمتّع بمنزلة خاصة عند المسيحيين. شقّت إذًا هذه الأناجيل الأربعة طريقها إلى قلب الكنيسة بسلاسة ودون جهد مصطنع، الأمر الذي لم تتمكّن منه الأناجيل الأخرى التي كان عدد منها معروفًا آنذاك.
وكان في النصف الثاني من القرن الثاني أن انتشر عدد من الكتابات التي سمّيت “أناجيل”، “أعمال”، أو “رسائل” ومضمونها يختلف عن مضمون الأناجيل الأربعة شكلًا وجوهرًا. عندها شعرت الكنيسة بأنها في حاجة ماسة إلى قاعدة واضحة حول ما هو التعليم الصحيح عن حياة وتعاليم يسوع المسيح، وما هو إيمان الرسل. واتجهت الأنظار أولًا إلى الأناجيل الأربعة_ متى ومرقس ولوقا ويوحنا- نظرًا للمنزلة الرفيعة والتأيد الشامل الذي تحظى به هذه الكتابات بين المسيحيين. كان تفوّق الأناجيل الأربعة كاسحًا حتى أنها أخذت الأضواء كلّها، فحجبت بسرعة كل المؤلفات المماثلة الأخرى. فيمكن القول أن الأناجيل الأربعة حظيت، نحو السنة 170 م. بمقام الأدب المسيحي المقدّس القانوني، وإن لم تُستعمل تلك اللفظة في ذلك الحين.
وفي الحقبة ذاتها، كانت رسائل بولس قد حظيت بالمنزلة نفسها تقريبًا كمنزلة الأناجيل، أما تفوّق الأناجيل عليها بفارق بسيط مردّه إلى أنها تحتوي على “تقليد الربّ” (سيرة المسيح وتعاليمه)، نظرًا لسمو المسيح على بولس عند المسيحيين. وعندما أصبحت نسبة أي كتابة إلى رسول أمرًا ملزمًا لتحظى هذه الكتابة بالصفة الشرعية بين المسيحيين، كانت الكتابات البولسية تتمتع بهذه الصفة مسبقًا لأنه لم يشكّك أحد في نسبة الرسائل البولسية إلى بولس أو دائرته اللاهوتية.
نرى أن قوننة عدد من الأسفار، وبالتحديد الأناجيل الأربعة ورسائل بولس تمّت قبل العمل على تشكيل القانون بطريقة رسمية. لقد تكوّن “القانون” ثم انتشر وليس العكس، ولم يكن لأي سلطة مصطنعة دور في هذا القانون، هو أقرّ بعفوية وكأمر مفروغ منه وغير مشكوك به، فمضمون هذه الكتابات ونسبتها إلى الرسل أو دوائرهم اللاهوتية كانا العاملان الرئيسان الذين أنالاها “القانونية”.
حوالي منتصف القرن الثاني، حصل أمر جعل الكنيسة تُسرّع في البتّ بالقانون. فقد ادّعى مرقيون، أحد أساقفة الكنيسة، بأنه يعترف من بين الكتابات المسيحية المتوفرة آنذاك، فقط الأناجيل الأربعة ورسائل بولس، نابذًا أية سلطة للعهد القديم على المسيحيين. وسار كثيرون في ركب مرقيون، الأمر الذي دفع الكنيسة إلى التفكير الجدّي في الشروع بعملية إنشاء قانون العهد الجديد.
في أواخر القرن الثاني، بدأ يسود الكنيسة شعور ينمّ عن حاجة ماسة إلى تكوين قانون العهد الجديد، وبقي السؤال مطروحًا ما هو مضمونه. فكّر آباء الكنيسة، في تكوينهم قانون العهد الجديد، بشكل قانون العهد القديم نفسه، فـ”التوراة” أو “الشريعة” و”الأنبياء” في العهد القديم، يقابلها الأناجيل ورسائل الرسل في العهد الجديد. وهكذا ابتدأت تُعدّ لوائح، ومن الصعب تتبّع تاريخ هذه المسيرة بتفاصيلها غير أننا بتنا متأكدين بأن القانون لم يتكوّن إلا على نحو تدريجي، وكان يكبر القانون كلّما تحقّق شيء من الاتفاق في الكنيسة حول سفر ما، نظرًا إلى أهمية هذا “الاتفاق” المعبّر عن وحدة الكنيسة.
وما هو جدير بالذكر أن ما بين سنة 150 و200 م. اعترفت الكنيسة بقانونية الأناجيل الأربعة، والرسائل البولسية، وسفر أعمال الرسل. وقد ضمّ سفر أعمال الرسل إلى القانون نظرًا لأنه نتاج مؤلف الإنجيل الثالث (لوقا)، ويتكلم بغالبيته عن بولس، ولا ننسى بأن لوقا، مؤلف الإنجيل والأعمال، كان أحد أركان الفريق البولسي المهمين، بل هو من رافق أو تتبّع نشاط بولس حتى النهاية.
وخلال القرن الثالث، عندما نما شعور الحاجة إلى تحديد ما هو قانوني، كرّت سبحة الأسفار التي حظيت باعتراف الكنيسة كلها. كانت منزلة الأناجيل الأربعة تتدعّم، ورسائل بولس مقبولة كلها، وكذلك سفر أعمال الرسل، وانضمّت رسالة بطرس الرسول الأولى إلى القافلة، وحصل إجماع على رسالة يوحنا الأولى. وبقيت تحفّظات على الرسالة إلى العبرانيين، ورسالة يعقوب، ورسالة بطرس الثانية، ورسالتا يوحنا الثانية والثالثة، ورسالة يهوذا، وسفر رؤيا يوحنا اللاهوتي. ووضعت هذه الكتابات تحت الفحص الدقيق للبحث في ملائمتها للقياس الأهم المتبع، ألا وهو نسبتها إلى أحد من الرسل. ومع إعطاء أهمية كبرى لهذا “المقياس”، أخذ كل سفر لم تثبت نسبته إلى أحد الرسل يفقد حظوته في الكنيسة.
وبالبحث الدقيق في صحّة نسبة بعض الأسفار إلى الرسل، قُبلت، في وقت ما من القرن الثالث، قانونية رسالتي يوحنا ورسالة بطرس الثانية، ورسالة يهوذا. وحدث نزاع حول الرسالة إلى العبرانيين ورسالة يعقوب وسفر الرؤيا. فالكنائس الغربية لم تقبل بالرسالة إلى العبرانيين، والكنائس الشرقية لم تقبل بسفر الرؤيا. ودون أن ندخل في التفاصيل، أقرّ قانون العهد الجديد الذي نعرفه اليوم في نهاية القرن الرابع (397 م.) لكن بقيت بعض الكنائس متردّدة في قبول بعض الأسفار المتنازع عليها.
وعندما غرقت الكنيسة في القضايا الكريستولوجية، صارت هي الأهم، واستحوذت بكل اهتمام الكنيسة، فطُويت صفحة “القانونية” إلى غير رجعة.
______________________
ملاحظة تتعلّق بالعهد القديم ككل: وفي القرون الوسطى، قسّمت أسفار الكتاب المقدس بعهديه إلى فصول (إصحاحات)[18] وآيات (فقرات). فسنة 1226، قسّم الفرنسي إتيان لانغتون الكتاب المقدس إلى فصول، وسنة 1551، وضع الفرنسي أيضًا روبير إستيان رقمًا لكل جملة من هذه الفصول. وقد قسّمت الفصول والآيات استنسابيًا.
[1] أهم الكتب اليهودية المرجعية بالإضافة إلى “العهد القديم” هي: المِشنا والجمارا والهلاخا وكلها تكوِّن التلموذ.
[2] كلمة “أبوكريفا” تعني “مخبأ” أو “سري”. وقد كانت هذه الكتب تُقرأ من قبل رجال الدين وبعض المتخصصين. (أنظر القسم المتعلق ب”أبوكريفا العهد القديم” في الفهرس).
[3] القوننة هي عملية صنع القرار، بواسطة الجماعة الدينية، بأن هذا السفر أو ذاك أصبح سفرًا “قانونيًا أي مرجعًا يؤسس عليه في صياغة العقيدة أو يُعاد إليه في التعليم والحوارات الدينية. هذا يعني أنه أصبح للسفر سلطة تعليمية في الجماعة الدينية التي اعتمدته.
[4] “التوحيد القومي” هو اتباع إله واحد هو الإله القومي والتنكر للآلهة الأخرى مع عدم إنكار حقيقتها.
[5] التوحيد الخالص هو الاعتراف بإله واحد حقيقي وعبادته وإنكار كل ما يُسمى آلهة أخرى وإنكار حقيقتها.
[6] Douglas A. Knight, Rediscovering the Traditions of Israel, 19973.
[7] (J) اختصار لاسم(Jawheh) باللغة الألمانية.
[8] (E) اختصار لاسم (Elohim) باللغة الألمانية
[9] (D) اختصار للكلمة (Deuteronomy)، وهو اسم سفر “التثنية” في اللغة الألمانية
[10] (P) اختصار لكلمة (Prietist) الألمانية وتعني “كهنوتي”
[11] “الهيكل الثاني” هو الهيكل الذي أُعيد بناؤه سنة 515 ق.م. بعد أن تهدم الهيكل الأول سنة 587 بواسطة الكلدانيين.
[12] Josephus , contra Apionem. 1. 8 from about 95 A. D.
[13] يختلف تاريخ كتابة مقدمة “يشوع بن سيراخ” من 170 إلى 180 أو 190 ق. م. باختلاف المصادر.
[14] الكتاب المقدس، الطبعة المشتركة مع الأسفار اليونانية. جمعية الكتاب المقدس في لبنان، الطبعة الأو لى1993 (يشوع بن سيراخ، المقدمة 1-26 ص. 69 و70).
[15] Josephus Contra Apionem (1. 8)
[16] See J. Albrto Soggin, Introduction to the Old Testament, translated by John Bowden from Italian, fourth edition published by Paideia Editrice, Brescia 1987, Luisiville, Westminster/John Knox Press, 1989, pp. 11-20.
[17] الماسوراتيون فئة من علماء الفقه واللغة -ماسوراه كلمة عبرية تعني كما في العربية : مقياس – عملوا ما بين سنة 500و950 م. هم الذين أضافوا التنقيط والتصويت على اللغة ووضعوا نص العهد القديم في شكله العبري المعروف لدينا حاليا.
[18] إصحاح كلمة سريانية تعني “فصل”.
RECENT POSTS
البيئة في الكتاب المقدَّس
البيئة في الكتاب المقدَّس الدكتور دانيال عيّوش RECENT POSTS
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ الخوري د. سامي نعمة RECENT POSTS
المواطنة في الكتاب المقدَّس
المواطنة في العهد الجديد الخوري الدكتور باسم الراعي* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023) مقدّمة القسّ د. عيسى دياب هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها...