قراءة العهد الجديد وتفسيره

الأب لُؤَيْ حنا

أ. د. لؤي حنّا*

(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 28/10/2016)

أوّلًا: كيف تتعاطى الكنيسة الأرثوذكسيّة مع الكتاب المقدَّس

حضور الكنيسة الأرثوذكسيّة

الكنيسة الأرثوذكسيّة هي كنيسة المجامع المسكونيّة السبعة الأولى. وبعد هذه المجامع لم تضف الكنيسة الأرثوذكسيّة أي عقيدة أخرى. وبالتالي لم تدخل بوجهات النظر المختلفة للكنائس بعد القرن التاسع، بل كانت خارجها لأسباب سياسيّة وحضاريّة عديدة، ولأنّها لم تكن متواجدة في الغرب. لذلك لم تتعاطى بشكل مباشر في العصر الحديث في الطرائق الحديثة لتفسير الكتاب المقدَّس ومدارسه وفي إدخال العلوم الانسانيّة في قراءة الكتاب المقدَّس. الأسباب متعدّدة، وأوّلها، كما ذكرنا، وجودها في منطقة جغرافيّة مختلفة، وثانيًا لأنّها كانت تَعتبر أنّ ما لديها يكفي. مثلًا، ليس لديها قرار يحدّد مَن كَتَب الرسالة إلى العبرانيّين بل تترك المجال للمفسّرين وعلماء الكتاب المقدَّس كي يحلّوا الأمور التفسيريّة والتحليليّة للكتاب المقدَّس. وهذا يعني أنّ المفسّر الأرثوذكسيّ لديه الحرّيّة، لكنّ الكنيسة تقول له إنّه لا يقدر أنْ يَخرج عن التقليد. فهل هذا يُعتبر حرّيّة أَمْ لا حرّيّة؟ والواضح أنّه علينا قراءة التقليد بكامله كي نضع حدودًا لأنفسنا!

الكنيسة شعب الله وجسد المسيح يسوع

تعبِّر الكنيسة الأرثوذكسيّة عن استقامة الرأي من خلال استقامة العمل، وتعتبر أنّنا تسلّمنا من الرسل تراثًا هو: الكتاب المقدَّس والتقليد الذي كان شفويًّا في البداية. الأرثوذكسيّة هي طريقة حياة الكنيسة، هي جماعة إفخارستيّة تصلّي معًا. ولا كنيسة خارج إطار العبادة. الكنيسة الأرثوذكسيّة تعلِّم ما أتى في المجامع المسكونيّة السبعة الأولى وما جاء في الكتاب المقدَّس. والأمر الأساسيّ لديها هو أنّ اللاهوتيّ يصلّي. فأولويّة النصّ على الممارسة وأولويّة العقيدة على الشركة هي مفاهيم لم تعد مقبولة اليوم، وقد حُكي عنها في أوروبا في العصور الوسطى وما زالت متداولة حتّى اليوم. إنما أولويّة الشركة على العقيدة هي الأولويّة الموجودة اليوم ويجب المحافظة عليها في الكنيسة الأرثوذكسيّة.

الكتاب المقدّس في الكنيسة الأرثوذكسيّة

في يوحنّا 20: 30-31 يقول الإنجيليّ: “وصنَعَ يَسوعُ أمامَ تلاميذِهِ آياتٍ أُخرى غَيرَ مُدوَّنَةٍ في هذا الكِتابِ. أمَّا الآياتُ المُدوَّنَةُ هُنا، فهيَ لتُؤمِنوا بأنَّ يَسوعَ هوَ المَسيحُ اَبنُ اللهِ. فإذا آمنتُم نِلتُم باَسْمِهِ الحياةَ”[1]، أي ليس كلّ ما فعله يسوع موجودًا في الأناجيل، وهذا ما يسمّى التقليد الشفويّ الذي نقله الرسل إلى المناطق التي بشّروا فيها.

في الكنيسة الأرثوذكسيّة يوضع الإنجيل على المائدة المقدَّسة ويُقام زياح في بداية القدّاس في منتصف الكنيسة ويُرفع الإنجيل المزيَّن بالصليب وأيقونة القيامة.

نحن لا نقول إنّ الكتاب المقدَّس هو كناب مُنزَل أو إنّ له سلطة فوق سلطة الكنيسة، بل إنّ سلطة الكتاب المقدَّس جاءت بسبب استعماله في الاجتماع الإفخارستيّ حيث كانت تُقرأ النصوص الكتابيّة، ولهذا السبب استمدَّت هذه النصوص سلطتها. إذ كما قلنا الإفخارستيّا متقدّمة على النصّ والعقيدة. وتقول الجماعات المسيحيّة الأولى في القرن الرابع إنّ هذه النصوص تشبه ما أخذناه عن الرسل وسنجعلها ضمن الكتاب المقدَّس.

والكنيسة الأرثوذكسيّة تَعتبر أنّ الكتاب المقدَّس موحى به إنّما يعبِّر عن نفسه بطريقة بشريّة، لأنّ الوحي الإلهيّ لا يلغي العنصر البشريّ. فسلطة الكتاب المقدَّس تأتي مِن الروح القدس الذي أوحى بالكُتب وهو حاضر في الكنيسة منذ ألفَي سنة وحتّى اليوم وما زال “يَفتح أذهاننا لنفهم الكتب المقدَّسة” (أنظر تلميذي عمواس لوقا 24: 45).

مَن يفسّر الكتاب المقدَّس وكيف نفهمه

قلنا إنّ الكتاب المقدَّس هو كتاب الكنيسة دوّنه أناس مؤمنون. قُرأ في الكنيسة ويُفسَّر حصريًّا في الكنيسة منذ القرن الثاني م. فأغناطيوس الانطاكيّ في القرن الأوّل م. يتكلّم عن أنّنا لا نعطي الكتاب المقدَّس لغير المؤمنين كي يؤمنوا به بل علينا تفسيره لهم في الكنيسة. أهمّ الواعظين في القرون الأولى هو القدّيس يوحنّا فم الذهب الذي كان يعطي الكتاب المقدَّس للمؤمنين كي يسمعونه في القدّاس “هنا” و”الآن”، أي كان يقوم بالتأوين. والتأوين هو هدف كلّ تفسير، وكلّ تأوين لا يَجعل الكتاب المقدَّس “هنا” و”الآن” ليس تأوينًا. ونستعمل العلوم كي نقوم بالتأوين للنصّ المقدَّس.

كيف نفسّر الكتاب المقدَّس في الكنيسة جمعاء

الطرائق التفسيريّة عديدة ومنها المناهج التاريخيّة النقديّة حيث يوجد علم يَدرس كيف وصلتنا المخطوطات اليدويّة ويحاول الوصول إلى النصّ الأصليّ.

علم النقد الأدبيّ يحاول من ناحيته معرفة أسلوب أو نمط الكُتّاب الأدبيّ وهدفه.

دراسة السياق للنصّ مهمّ جدًّا.

نقد التقاليد الأربعة المختلفة المجموعة في كُتب التوراة الخمسة.

نقد التحرير يَدرس مثلًا كم مسودّة قام بها متّى قبل الوصول إلى النصّ النهائيّ.

هناك أيضًا “التناصّ” أو ما يسمّى الـ Intertextuality فإذا كَتب متّى مثلًا نصًّا مستوحى مِن إشعيا، علينا أن نفهم قصد إشعيا أوّلًا.

أمّا أقدم طريقة للتفسير فهي تفسير كلّ كلمة واردة في النصّ المقدَّس واسمها Allegoria وهي مدرسة قديمة جدًّا، كانت مقبولة آنذاك، لكنّها غير مقبولة تمامًا لأنّه لا يمكننا أنْ نجتهد في فهم معنى كلّ كلمة مِن كلمات الكتاب المقدَّس.

هناك أيضًا الشكل الأدبيّ، كالقصيدة أو الآية، والتمييز بينها.

بالإضافة إلى تحليل النصّ ويتضمّنه دراسة الأفعال الواردة في النصّ المقدَّس وإلى ما هنالك.

وكلّ هذه الطرائق هي باب لتفسير الكتاب المقدَّس.

بعض الأمثلة والنصوص الكتابيّة

·       مسألة عذريّة مريم بحسب متّى ولوقا

لا يمكننا أنْ نستخرج مِن النصّ المقدَّس ما إذا بقيت مريم أمّ يسوع عذراء بعد الولادة أَمْ لا.

نعرف أنّ الكنيسة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة تؤمن بأنها عذراء قَبل وفي وبَعد الولادة. لكنْ، هل هذا تشديد كتابيّ أَمْ نحن نسقطه على الكتاب المقدَّس؟

الواقع أنّ قصد الكتاب المقدَّس ليس الكلام عن عذريّة مريم بل عن يسوع، وإنّما تأتي عذريّة مريم في سياق الحديث عن يسوع. فأهمّيّة الموضوع هو أنّ الخلاص أتى مِن الله وليس “مِنْ دَم ولا مِنْ رَغبَةِ جسَدٍ ولا مِنْ رَغبَةِ رَجُلٍ” كما يقول الإنجيليّ يوحنّا (يوحنّا 1: 13).

·       خطابات بولس في أعمال الرسل

مَن كَتب خطابات بولس الواردة في أعمال الرسل، لوقا أَمْ بولس نفسه؟

فنحن نقرأ هذه الخطابات في هذا السِّفر ونجدها مرتّبة بحسب الترتيب الأرسطيّ للخطابات. ونعتقد أنّ لوقا أعاد صياغتها. ونذكّر بأنّ النصوص المقدَّسة موحى بها ولكنّها تحتوي على عنصر بشريّ.

·       سِفر رؤيا يوحنّا

هل الأزمات الحاليّة هي علامات نهاية الأزمنة التي تكلّم عنها سِفر رؤيا يوحنّا؟

الأدب الرؤيويّ طريقة يُكتب فيها النصّ على مثال العهد القديم (حزقيال ودانيال وغيره) وفي العهد الجديد أيضًا (مرقس 13، إلخ). هو أدب يُكتب في الأوقات الصعبة والهدف مِن كتابته تقوية المؤمنين وتذكيرهم أنّ الله هو الغالب. فهل يُطبَّق علينا اليوم سِفر رؤيا يوحنّا؟ إنْ كنّا نعيش في أزمة، نعم يُطبَّق علينا لكنْ، علينا أنْ نفهم رسالته: أنّ الله هو الغالب وأنّه سيّد التاريخ وأنّ كلّ ما نمرّ به هو محمول لأنّ الله يعتني بالمؤمنين به.

[1] النصوص البيبليّة الواردة في هذه المقالة هي بحسب الترجمة العربيّة المشتركة، بشكل عام.

RECENT POSTS

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في العهد الجديد الخوري الدكتور باسم الراعي* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023) مقدّمة القسّ د. عيسى دياب هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها...

×