القراءات المتعددة للكتاب المقدّس في ضوء العلوم البيبلية الحديثة
- القسّ عيسى دياب راعي في الكنيسة الإنجيليّة، يحمل أربع شهادات دكتوراه: اللاهوت، وتاريخ الديانات السّاميّة، والفكر الإسلاميّ، وفيلولوجيّة الكتاب المقدَّس، وشهادة الجدارة في الإشراف على البحوث. درَّس في عدد مِن الجامعات في لبنان والخارج، ويدرّس اليوم في جامعة القدّيس يوسف وكلّيّة اللاهوت للشرق الأدنى. هو مستشار ترجمة الكتاب المقدَّس في الاتّحاد العالميّ لجمعيّات الكتاب المقدَّس، وعضو في الرابطة الكتابيّة.
(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/2/2016)
ملخّص
يُعتبر القرن التاسع عشر، الذي هو برأينا تتويج لأعمال عصر التنوير، بما فيه عصر النهضة والثورة الصناعية، تاريخاً مفصلياً بالنسبة لقراءة الكتاب المقدّس. فنستطيع أن نتكلم عن قراءات ما قبل القرن التاسع عشر وقراءات ما بعده. ذلك لأن هذا القرن عرف علوماً إنسانية جديدة أسّست لعلوم نقدية، طُبِّقت على النص المقدّس فنشأت، من جراء ذلك قراءات جديدة كان لها التأثير البليغ في طرق التفسير وتوضّحت أو تبدّلت كثير من المفاهيم اللاهوتية التي كانت سائدة. كان الكتاب المقدّس، قبل تأسيس هذه العلوم الحديثة، يُقرأ حرفياً ويؤخذ على أنه تاريخ صحيح كما نفهم نحن اليوم التاريخ، كما وتأسّست عليه النظرة القديمة للكون قبل العصر الكوبرنيكي. وقد نتج عن هذه القراءة تباين بين العلم والدين، بين الكتاب المقدّس والعلوم التاريخية والطبيعية. بعد نشوء علوم الآثار وتاريخ الأديان وعلوم النقد التاريخي والأدبي، وطبقت على قراءة الكتاب المقدّس، فهم النص بشكل أكثر واقعية وأكثر منطقية وتعدّلت، بل وتغيّرت كثير من المفاهيم الدينية والتأويلات البيبلية. وأخيراً يدعو الكاتب إلى مزيد من تطبيق العلوم الإنسانية على النصوص، من أجل توضيح النص وفهمه وتأوينه ليصبح أكثر فاعلية في المجتمع المعاصر. أما مسألة الإيمان، فهي خيار شخصي، أخذه المؤمن، وهذا الإيمان لا يبنى على نص جامد أو متحرّك بل على روحانية نابعة من عمق الكيان الإنساني.
لهذا الموضوع علاقة مباشرة بعلم التفسير. إن مخاطر اللجوء إلى تفسير الكتاب المقدّس، دون الأخذ بعين الاعتبار هذه القراءات المتعدّدة وامتلاك مهارات علمية معينة، هي كمخاطر الإبحار بسفينة دون معرفة الطرق البحرية، ولنفترض أن البحّار وصل بسلامة، لكنه يكون قد وصل عشوائياً إلى ميناء ما.
الكلام عن القراءات المتعدّدة للكتاب المقدّس يطول، والعلوم البيبلية التي أسّست له كثيرة، لذلك سأحصر كلامي في عدد من هذه القراءات التي ظهرت تباعاً في تاريخ علم التفسير، والتي هي:
- القراءة التاريخية الأفقية. أي اعتبار الكتاب المقدّس كتاب سرد تاريخي يبدأ بقصة الخليقة في بداية سفر التكوين وينتهي بنبوّات مستقبلية عن نهاية الزمان.
- القراءة الحرفية. أي اعتبار الأحداث المروية في الكتاب المقدس قد حدثت بطريقة “المرئي والمسموع” (كان يمكن تسجيلها وتصويرها لو كنا نمتلك الوسائل التقنية).
- القراءات التقليدية والسلفية. وهي القراءات التي نراعي فيها طرائق رواد برزوا في هذا المجال. ونعني هنا خاصة آباء التقاليد اليهودية المختلفة.
- قراءات الرمزية الظاهرية. وهي القراءات التي يؤخذ فيها بعين الاعتبار الرموز التقليدية الظاهرة في النص، مثلاً: أورشليم الحاضرة تشير إلى هاجر العبودية وأورشليم السماوية تشير إلى سارة الحرية.
- قراءات الرمزية الباطنية. وهي القراءات التي تفترض أن لكل ظاهر جلي باطناً خفياً (من ظهر وبطن الانسان). وقد برزت هذه القراءة مع بروز الفرق الدينية الباطنية.
- قراءات الصيغ الأدبية المختلفة. وهي القراءة التي تأخذ بعين الاعتبار الصيغ الأدبية المختلفة كالشعر والقصص والرواية والاستعارة والمواراة.
- القراءة التاريخية السياقية. وهي القراءة التي تأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي الذي كُتب أو روجع فيه النص وموضوع تطوّر الفكر الديني المصاحب لتطوّر الفكر الإنساني.
- القراءة الانعكاسية. أي أن القارئ الحاضر، وفي ظرف حدث ما، يعود إلى الوراء ليقرأ نصا،ً بعيداً في الزمن، على ضوء الحدث الذي يعيشه. فمعطيات زمن الكتابة تنعكس على الحدث عند وضعه في زمن حدوثه. مثلاً الأعداد الكبيرة الواردة في التوراة[1].
وما لن أتطرق إليه هو : القراءات الروحية التقوية، التي وجدت في كل العصور وما زالت موجودة وضرورية، والقراءة المسيحية، التي وجدت لدى كتاب العهد الجديد وتقاليد المسيحية عبر عصورها ومازالت رائجة.
أما أهم العلوم البيبلية الحديثة التي كان لها التأثير الكبير في مختلف القراءات هي:
- علم الآثار
- علم تاريخ الأديان
- علم الأشكال والأساليب الأدبية
- علوم النقد الكتابي
لقد نشأت هذه العلوم في القرن التاسع عشر، لذلك فقبل الكلام عن العلوم والقراءات المتعددة، علينا استكشاف الحقبة السابقة للقرن التاسع عشر لجهة كيفية قراءة الكتاب المقدس.
أولاً: قراءة الكتاب المقدس قبل القرن التاسع عشر
قبل العصر الكوبرنيكي، كانت القراءة الحرفية سائدة نتيجة للقراءة التاريخية الأفقية المستعملة آنذاك والتي كانت توجّه القارئ. وبناء عليه، فإن النظريات الكوزمولوجية القديمة كانت تقرأ حرفياً في النصوص الكتابية[2]: “المؤسس الأرض على قواعدها فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد” (مز 104: 5)؛ “للربّ الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها. لأنه على البحار أسّسها وعلى الأنهار ثبتها” (مز 24: 1-2)؛ “الباسط الأرض على المياه” (مز 136: 6)؛ “أين كنت حين أسست الأرض، أخبر إن كان عندك فهم. من وضع قياسها؟ لأنك تعلم. أو من مدّ عليها مطماراً؟ على أي شيء قرَّت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها؟” (أي 38: 4-6)؛ “صانع الأرض بقوته، مؤسس المسكونة بحكمته، وبفهمه بسط السموات” (إر 10: 12)؛ “الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مُسحت منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمر أُبدئت، إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد، ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة. لما ثبّت السموات كنت هناك أنا، لما رسم دائرة على وجه الغمر. لما أثبت السحب من فوق، لما تشددت ينابيع الغمر. لما وضع للبحر حدّه، فلا تتعدى المياه تخمه. لما رسم أسس الأرض. كنت عنده صانعاً” (أم 8: 22-30)؛ “من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرَّ المياه في ثوب؟ من ثبّت جميع أطراف الأرض؟” (أم 30: 4)؛ “ألا تعلمون؟ ألا تسمعون؟ ألم تُخبَروا من البداءة؟ ألم تفهموا من أساسات الأرض الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجُندُب؟ الذي ينشر السموات كسَرادِق ويبسطها كخيمة للسكن” (إش 40: 21-22).
بحسب القراءة الحرفية والقراءة التاريخية الأفقية، يقسم الكون إلى ثلاثة مناطق: فوق حيث السماء، مركز سكنى الله وملائكته والفردوس وساكنيه من الموتى الأخيار؛ الأرض، في الوسط، حيث يعيش البشر وحيث تدور أحداث التاريخ؛ وتحت، حيث الهاوية (الشيؤول)، هناك مركز سكن الأبالسة والشياطين ومكان إقامة الموتى الأشرار. ولم يكن أحد يرفض هذه النظريات لأنها مؤسسة على الكتاب المقدس، على ما كان يُظن، وهذا “مقدّس”، ولا علوم تتصدى لها، بل ومن يجرؤ على التصدي لمسلّمات الكتاب المقدس؟
واستناداً إلى القراءة الحرفية والقراءة التاريخية الأفقية، كانت تفهم الأحداث التاريخية المدوّنة في أسفار العهد القديم، من التكوين حتى سفر الأخبار الثاني، على أنها متسلسلة زمنياً. واستعملت سلالات النسب والأعمار لعمليات حسابية من أجل تحديد عمر الأرض، أو عمر آدم، أو تاريخ نوح والطوفان، أوتاريخ برج بابل، أو تاريخ إبراهيم وخروجه، أو تاريخ موسى والخروج من مصر، ثم دخول كنعان مع يشوع، وتواريخ قضاة وملوك أسرائيل، إلخ… بل وتاريخ الشعوب يؤخذ من النص المقدس إذ لم تكن المعلومات التاريخية من خارجه متوفرة.
أما القراءة التقوية الروحية، التي مورست على مدى العصور، كانت متأثرة بهذه النظرة البيبلية للكوزموس وللتاريخ.
وكذلك، فُهمت القصص التوراتية على حرفيتها. ففي قصة “الخلق”، كان يُنظر إلى الله كإنسان “يقول” بصوت جهوري فيخلق، ثم “يجبل” التراب، وينفخ فيه فيخرج إنسان، ويأخذ ضلعاً من آدم فيكوِّن منه حواء (تك 1-2). ثم نرى الحية تسير على أربعة أرجل وتتكلم وتتحاور مع حواء (تك 3). ثم نقع على بشر عاشوا مئات السنين (تك 5). ونجد طوفاناً غطى كل وجه الأرض، فمات كل من وما كان عليها من بشر وبهائم وعادت الأرض وعمرت بعائلة نوح الحيوانات التي كانت معهم في الفلك (تك 6-9). وإلى ما هنالك من قصص غير واقعية كانت تقرأ بحرفيتها.
وبالرغم من نظرية كوبرنيكس (1473-1543) حول كروية الأرض والنظام الشمسي، وتطويره بواسطة كبلر (Kepler) (1571-1630) وغاليليه (Galilée) (1564-1642)، ظلّت الكنيسة الكاثوليكية، والمصلحون البروتستانت، متمسكين بالصورة القديمة للكوزموس، المبنية على القراءة الحرفية للكتاب المقدس. بل وحتى بعد قيام الثورة الصناعية في القرن السابع عشر، ظلّت هذه الصورة مسيطرة في الوعي الديني التقليدي. ولربما حتى اليوم عند البعض من القارئين الحرفيين للكتاب المقدس.
ثانياً: ثورة العلوم في القرن التاسع عشر وتأثيرها على قراءة الكتاب المقدس
إن آثار الإصلاح البروتستانتي وعصر النهضة والثورة الصناعية (القرنان السادس عشر والسابع عشر)، وبعد تمخض طويل، أدت، في القرن التاسع عشر إلى نشوء علوم إنسانية جديدة كان لها الأثر البالغ في المنهجية الأكاديمية وطرق التفكير، الأمر الذي أدى إلى مقاربة موضوع الدين، بشكل عام، بطريقة مختلفة. فبعد سيطرة الفلسفة السكولاستية (المدرسية) لفترة طويلة في أوروبا، حين كانت العلوم الإنسانية، بما فيها الدين، مؤسسة على المسلمات، نشأت منهجية جديدة تدعى “المنهجية العلمية” التي تعطي أهمية كبيرة للعقلانية وتعتمد على المصادر الأولية أو الواقع المعاش. أهم هذه العلوم التي كان لها الأثر البالغ على قراءة الكتاب المقدس:
1. علم الآثار[3]
قبل نشوء علم الآثار، كانت كل المعلومات التاريخية مسلمات واردة في العهد القديم، فلا أحد كان يعرف شيئاً عن الأشوريين مثلاً إلا مما ورد عنهم في الكتاب المقدس، وكانت هذه المعلومات مسلمات لا تُناقش ولا يُسأل عن مدى ملاءمتها للحقيقة التاريخية ولا تقُارن مع معطيات أخرى لعدم توفرها. تكوَّن هذا العلم على مراحل متعددة: مرحلة استكشاف الأراضي المقدسة (فلسطين) خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ استكشاف منطقة ما بين النهرين ومصر، خلال النصف الثاني من القرن نفسه؛ ثم مرحلة الحفريات في كلا المنطقتين التي بدأت مع بدايات القرن العشرين وما تزال مستمرة وأضيف إليها مناطق في سوريا مثل رأس الشمرا (أوغاريت) وتل حريري (ماري) وتل عطشانة (إبلا). من نتائج أعمال الحفريات أن عثر العلماء على فخاريات، وعظام حيوانات وعظام بشرية، ولوائح كتابات ومومياءات ومدن وحلى وأواني منزلية ومسلات وتماثيل آلهة ومعابد وهياكل وإلخ… كان من أهم إنجازات الحفريات أن العلماء استطاعوا أن يضعوا لوائح زمنية للحقبات التاريخية المتعاقبة بدءاً من حقبة ما قبل التاريخ (من 8000-3400 ق. م.) حتى العصر الهلليني الروماني (330 ق. م. حتى 70 م) مؤسسة على معطيات تاريخية شبه علمية ملموسة نتجت عن دراسة الآثارات التي عثر عليها.
وبالنظر إلى الكتاب المقدس، موضوع اهتمامنا في هذه المقالة، فقد كشف علم الآثار عن كثير من القصص والأخبار التي يوجد مثيل لها في الكتاب المقدس (قصة الخلق، قصة الطوفان)، ومستندات قانونية (قانون حمورابي وشريعة موسى)، وأسماء أبطال وقادة وملوك وأماكن، تقاطعت مع معطيات الكتاب المقدس، ومفاهيم دينية واجتماعية وسياسية ألقت الضوء على المعاني الحقيقية المقصودة في كثير من النصوص البيبلية.
كيف أثّر علم الآثار على طريقة قراءة وفهم نصوص الكتاب المقدس؟
- وضع الأحداث التاريخية المذكورة في الكتاب المقدس في تواريخها الحقيقية. فمع عثورنا على آثار أو متروكات لكثير من الأحداث القديمة المذكورة في الكتاب المقدس، أصبح باستطاعتنا أن نضع هذه الأحداث في موقعها التاريخي. بعض الأمثلة: قصة إبراهيم وسارة وهاجر لتدبير وريث شرعي (تكوين 16)؛ وقصة يعقوب وخاله لابان (تكوين 30-31) مع ما اكتشف في مدينة نوزي، يجعلنا نضع إبراهيم في النصف الأول من الألف الثاني ق. م.، والفرعون الذي لم يكن يعرف يوسف في مصر (خروج 1: 8)، وقصة الخروج التي أصبح بالإمكان تحديد تاريخ الحدث (القرن الثالث عشر ق.م.)، وفهم دقائق حقيقته التاريخية وطريقة الدخول إلى أرض كنعان (اختراقات بسيطة للمنطقة الجبلية من فلسطين).
- فهم المعاني الحقيقية لكثير من المفاهيم الدينية والاجتماعية المذكورة في الكتاب المقدس. لقد كشف لنا علم الآثار عن مختلف دول عالم الكتاب المقدس وأحداثه التاريخية وحضاراته فعرفنا بالمناخ الديني والزمني في الحقبات القديمة وتطوراته عبر الزمن، فاضاءت هذه الحضارات على الكثير من النصوص التي كانت مبهمة في قراءتها الحرفية. مثلاً: قصة الخلق في (تكوين 1-2) وطريقة قطع العهد كما في (تكوين 15) واستبدال الحذاء بين متقدمين للزواج من نفس المرأة كما في قصة راعوث (راعوث 4: 7-8) مع مكتشفات مدينة نوزي أيضاً؛ و”طبخ جدي بلبن أمه (خروج 34: 26 وتثنية 14: 21) مع مكتشفات أوغاريت.
- إلقاء الضوء على بعض النصوص والكلمات من الكتاب المقدس لفهمها فهماً صحيحاً. إن مخطوطات البحر الميت من الأسفار الكتابية قد ساعدتنا على تصحيح لفظ كثير من الكلمات التي كان قد حرّكها علماء الماسوراة خطأ. مثلاً تصحيح كلمة “أسد” (عب: ر أ، شُكلت فأصبحت أريا = أسد) ب”الرائي” في (إشعياء 21: 8).
بما أن كثيراً من الأحداث المذكورة في الكتاب المقدس تشكل جزءاً من تاريخ البشرية، أصبح بالإمكان فهم إعلان الله للإنسان وتبليغه رسالته عبر تاريخ البشرية. فالرسالة لم تأتِ في فراغ بل في مضمون تاريخي وحضاري. وهذا يساعد قارئ الكتاب المقدس على فهم رسالة الله له.
2. علم تاريخ الأديان[4]
نشأ هذا العلم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نتيجة للآثار الدينية التي وجدها علماء علم الآثار. ولهذا العلم علاقة مباشرة مع كل من علم الآثار والتاريخ والأنثروبولوجيا. وأخذ علم تاريخ الأديان المنهجية التطورية التي صيغت في نظريات “النشوء والارتقاء”. يركّز علم تاريخ الأديان على محاولة فهم أصول الأديان وتطورها عبر التاريخ البشري. توصّل هذا العلم إلى بعض الخلاصات النسبية، أهمها:
- الفكر الديني البشري لا يبقى جامداً بل يتطور، وتطوره متعلق بتطور الفكر الإنساني بشكل عام. عندما كان الفكر البشري يرى في إبادة المختلف شريعة منطقية، نادت الديانات القديمة بوجوب فرض ديانة السلطة على جميع محكوميها، ومن لا يقبل عليه مواجهة الإبادة. لكن عندما نما الفكر البشري وأسس لشرعة الحرية الفردية لجهة الدين والمعتقد، هبّ قادة هذه الديانات يسندون هذا من النصوص المقدّسة ويعلّمون الحرية الدينية بأسس علمية.
- يوجد، في كل دين، تطور تاريخي لجهة المفاهيم والممارسات. ففي الطوطمية كانت القبيلة تجتمع فتقتل الحيوان الذي كان يُعتقد أن الإله متجسد فيه، وتأكله في احتفال مقدس. وبُسِّطت هذه الممارسة عبر الزمن لتصبح مجرد اجتماع الجماعة المؤمنة، في العشاء الرباني، حول الخبز والخمر. كان الانسان القديم يقدم ابنه ذبيحة، وتحولت هذه العادة إلى ممارسة الختان الذي هو تعبير عن تقديم الشخص إلى الله في احتفال ديني.
- تدرّجت الأديان في تطورها من المحسوس إلى المجرّد، ومن المحسوس البسيط إلى المحسوس المعقّد فإلى البسيط المجرّد. ففعل التوبة كان ممارسة البغاء المكرّس، لكنه أصبح صلاة مكرسة؛ إن أقدم تماثيل للآلهة اكتشفت هي تماثيل بسيطة، ثم تطورت الديانات إلى أنظمة طقوسية معقدة، ثم اختصر في المسيحية في فعل المحبة. لم يعرف إسرائيل التوحيد الخالص إلا في فترة السبي (587-539 ق.م.)
- عمدت كل ديانة إلى عملية توفيقية مع الديانة التي سبقتها في المنطقة الجغرافية نفسها. توجد في الديانة الاسرائيلية القديمة كثير من الصور والمفاهيم التي كانت موجودة في الديانات الوثنية التي سبقتها أو عاصرتها. وما اليهودية إلا تطور طبيعي للديانة الاسرائيلية القديمة. ولا يُفهم العهد الجديد، النص المقدس للمسيحية، فهماً صحياً إلا بفهم الديانة اليهودية في المرحلة التي نشأت فيها الديانة المسيحية.
لقد ساعد علم تاريخ الأديان على دراسة ديانة العهد القديم بدءاً بديانة آباء إسرائيل إلى ديانة موسى إلى التوحيد الصافي في اليهودية. وحلّ هذا العلم للقارئ عقدة الفرق الكبير، لجهة مستوى الفكر الديني والصور المرسومة لله في النص المقدس، في مختلف الحقبات التاريخية. لقد عاشت الكنيسة أزمة كبيرة في بداية عصرها عندما رَفض مارسيون إله العهد القديم ولم يستطع أن يوفق بينه وبين صورة الله في يسوع المسيح، ولعدم وجود هذا التوضيح الاجتهادي، رُفضت آراء مارسيون وفُصِل عن الكنيسة. وحتى أيامنا، لا يستطيع قرّاء الكتاب المقدس التوفيق بين “إله العهد القديم” و”إله العهد الجديد” إلا بمساعدة استخلاصات علم تاريخ الأديان.
إن القراءة التطورية للفكر الديني يمنع الإنسان من قياس تصرفات أخلاقية قديمة العهد على مقياس أخلاقيات العصور الحديثة؛ ومن الإتيان بتصرفات قديمة العهد وتشريعها في العصور الحديثة كأعمال القتل والإبادة الواردة في العهد القديم. وهذا بحد ذاته يؤثر في قراءة النص المقدس تأثيراً بليغاً.
أما لجهة صورة الله في النص المقدس، فالكاتب الملهم رسم صورة الله بحسب الفكر الديني في الحضارة التي كان يعيش فيها. لذلك توجد صور متعددة في الكتاب المقدس عن الله رسمتها أقلام الكتّاب الملهمين في ما كتبوه. لكن الله روح، مجرّد من كل تصوير بشري، والصور كلها التي رُسِمت له هي مجرّد مقاربات بشرية حضارية. ونؤمن مسيحياً بأن أبلغ رسم لصورة الله هو حياة يسوع المسيح وأعماله وتعاليمه إذ أنه، كما قال الكاتب الملهم، “بهاء مجده ورسم جوهره” (عبرانيين 1: 3).
كيف لا يؤثر كل هذا في قرّاء النص المقدس وفهمه؟ وكيف يستطيع إنسان تَعرَّف إلى هذه الأفكار أن يقرأ النص المقدس قراءة حرفية جامدة غير آخذة بالاعتبار تطور الفكر الديني عبر الزمن؟ إن التعرّف على هذه المعلومات لا بد أن يذهب بالإنسان، والإنسان المؤمن، إلى أبعاد أخرى في قراءته للنص المقدس.
3. علم الأشكال والأساليب والبنى الأدبية[5]
كل لغة هي بحد ذاتها حضارة، فمفرداتها وجملها وصِيَغها تعبّر عن مميزات حضارية. توجد أشكال أدبية مشتركة في كل اللغات، وأحياناً كل لغة تعبّر عن نفسها وعن الحضارة التي تنتمي إليها بطريقتها الخاصة. في عصر التنوير، قُرئ الكتاب المقدس ككتاب ينتمي إلى الآداب القديمة وحُلّل بهذه النظرة التحليلية.
من المعروف أن العهد القديم مكتوب، بلغته الأصلية باللعة العبرية، ومقاطع قليلة مكتوبة باللغة الآرامية. وكلتا اللغتان تنتميان إلى عائلة اللغات الساميَّة التي لها أشكالها الأدبية وأساليبها. أما العهد الجديد، فمكتوب باللغة اليونانية، ولهذه اللغة أيضاً خصائصها.
اللغة وسيلة للتواصل، والشكل الأدبي، وكذلك الأسلوب الأدبي وسيلة لتوصيل الفكرة بشكل منمّق ومزخرف، ولهذه دلالات جمالية تصاحب الفكرة المعبر عنها، وكل تفسير حرفي للإضافات التنميقية توجّه التفسير في الاتجاه الخاطئ. كُتب الكتاب المقدس بأشكال وأساليب أدبية مختلفة: من الأشكال الأدبية، نجد النثر والشعر والسجع والتوازي. من الأساليب، نعثر في الكتاب المقدس على الأسلوب القصصي (الروائي) والإخباري (لسرد الأخبار والأحداث التاريخية) والشاعري والتشبيه والاستعارة والمثل. ولكل شكل ولكل أسلوب ادبي خصائصه التفسيرية، وعدم أخذ هذا بالاعتبار، يقود المفسر في طرق مضللة.
لكل نص كامل، قصيراً كان أم طويلاً، بنية أدبية: مقدمة، قلب الموضوع، خلاصة. أو استعراض فعقدة فحل فنتيجة. وعلى قارئ النص المقدس أن يأخذ بالاعتبار البنية الأدبية التي ينتمي إليه النص المنوي تفسيره.
بعد اكتشاف المخطوطات القديمة، نتج عن قراءتها علم الألسنية (Philologie)، ويبحث هذا العلم في أصل معاني الكلمات، لأن الكلام يتغير معناه مع الوقت ومع تبدل الدلالات المادية المعبر عنها في الكلمة. فمثلاً “قطع عهداً” تعبر عن احتفال ديني لتوقيع معاهدة بين طرفين كان تقطع فيه الذبائح إلى شقين ويمر المتعاقدان بينهما (رج تك 15).
إن دراسة الأشكال والأساليب الأدبية تؤثّر في قراءة النص المقدس تأثيراً بليغاً، وعلى القارئ أن يأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية:
- على القارئ أن يحدد الشكل الأدبي والأسلوب الأدبي والبنية الأدبية للنص المقروء.
- على القارئ أن يفهم المعاني الأصلية للكلمات المستعملة في النص، أي ماذا كانت تعني هذه الكلمات عند كتابة النص.
- على القارئ أن يفرّق بين المحسوسات المستعملة في النص والمعاني المجردة المعبَّر عنها بهذه المحسوسات.
- على القارئ أن يعي ماذا يجب أن يفسر من النص كفكرة رئيسة وماذا يجب أن يترك كمكمل أدبي للخبر كما في أسلوب الأمثال.
- على القارئ أن يعي ماذا من النص يجب أن يفسر حرفياً، وماذا يجب أن يفهم شاعرياً أو تشبيهياً كالمحسوسات التي تنسب إلى الله: “عينا الرب”، “يدا الله” إلخ…
4. علوم النقد الكتابي[6]
كُتب الكتاب المقدس بواسطة عدد من الكتّاب وفي تواريخ متنوعة. لكن النصوص المصدرية التي تترجم عنها كل الترجمات (النص المسلّم به Textus Receptus، المخطوطات البيزنطية) تعود إلى تاريخ يقع بين القرنين التاسع والحادي عشر. لكن، عرف النصف الثاني من القرن التاسع عشر اكتشاف كثير من المخطوطات القديمة لنصوص الكتاب المقدس، ولعل أهمها المخطوطة السينائية التي اكتشفها العالم تشندورف في دير القديسة كاترين في سيناء، والتي تعود إلى القرن الرابع للميلاد، ومخطوطات البحر الميت التي تعود إلى القرن الثاني ق.م. أي أقدم من النص الذي كان متوفراً بأكثر من ألف سنة.
إن مقارنة النصوص القديمة للكتاب المقدس، بلغاتها الأصلية أو مترجمة، ببعضها البعض أسس لما يُسمى اليوم بعلم “تحقيق النصوص”(Critique textuelle)
لقد أثارت العلوم الآنفة الذكر: الآثار، تاريخ الأديان، النقد الأدبي، عندما قُرئ النص المقدس على ضوئها، مجموعة من المواضيع التي يطرحها الدارس عند قراءته النص المقدس: كاتب النص، زمن الكتابة، البيئة الحضارية، كيفية كتابة النص، المراحل التي مرّ بها النص حتى وصل إلينا في صيغته النهائية، التقليد الذي ينتمي إليه النص. ونتج عن الاجتهادات في دراسة هذه المواضيع ما يُسمى ب”علوم النقد الكتابي”. وهكذا، أصبحت مجموعة علوم النقد الكتابي تحتوي على:
- علم تحقيق النصوص. يهتم بدراسة المخطوطات القديمة للكتاب المقدس ومقارنتها ببعضها البعض للوصول إلى أقرب ما يمكن من النص الأصلي.
- علم تحقيق المصادر. دراسة مصادر النصوص المتداولة.
- علم تحقيق التحرير أو التدوين. كيفية وضع النص والمراحل التي مرّ بها حتى وصلنا بصيغته المتداولة اليوم.
- علم تحقيق الأشكال والتقاليد. دراسة التقاليد اللاهوتية التي كتبت النصوص في رحابها.
توصلت علوم النقد الكتابي إلى الاستخلاصات التالية:
- إن أسفار العهد القديم، وخاصة أسفار الشريعة (البنتاتيوكس) هي نتيجة جمع عدد من التقاليد، أربعة أو خمسة، جمعت ووضعت في صيغتها النهائية خلال فترة السبي أي خلال الفترة الممتدة من 587 إلى 539 ق.م.
- لم يقفل قانون العهد القديم (تحديد الأسفار القانونية) إلا في نهاية القرن الأول للميلاد.
- ينتمي كل إنجيل من الأناجيل الأربعة إلى تقليد خاص نما وتحدّد في ظروف مكانية وزمانية محددة فكُتب الإنجيل على ضوء هذا التقليد.
- أقدم الأناجيل هو إنجيل مرقس، والأناجيل الباقية استقت من مادته ومن تقليد آخر.
إن هذه الاستخلاصات تفرض على القارئ القراءة الانعكاسية، فقصة خروج بني إسرائيل من مصر ودخولهم أرض كنعان انعكست فيها أوضاع المسبيين وتوقهم إلى الخروج من السبي ودخول أرض كنعان. وحدث القيامة والكرازة انعكس على أخبار حياة يسوع وأعماله وتعاليمه. وفي تدوين هذه الأخبار الانعكاسية، لجأ الكاتب الملهم إلى ما يُسمى (Anachronisme)، أي محاولة وضع الحدث في زمن حدوثه.
الخلاصة
بعد تحليل النص المقدس على ضوء العلوم النقدية الحديثة، نقرأ نصوص الكتاب المقدس بالنظرات التالية:
- الكتاب المقدس كلمة الله الموحى بها بالروح القدس، هي نتاج مشاركة بين الله والانسان، فالله ألهم الكتاب الملهم، وهذا الأخير صاغ رسالة الله الموحى بها في قالبه الأدبي المستوحى من معرفته، وخبرته الدينية، والحضارة التي كتب رسالة الله في رحابها. وما الوحي إلا تدوين، بإرشاد الروح القدس، لعمل الله في التاريخ البشري. وتأتي رسالة الله للانسان من خلال أحداث التاريخ.
- ليس الكتاب المقدس كتاب علم حتى نستقي منه النظريات العلمية، وليس هو كتاب تاريخ حتى نتعلم منه تاريخ الشعوب. تطرّق الكتّاب الملهمون إلى بعض النظريات العلمية والمفاهيم التاريخية التي كانت متداولة في الزمن والحضارة التي كتبوا فيها.
- ليست النبوّة قول المستقبل، بل هي وعظ وتعليم وحثّ على اتّباع الله، تطبيق شرائعه ونواميسه وترقُّب لتدخّله المستقبلي في التاريخ البشري. إنَّ أوضح تحقيق للنبوة هو عند تحقيق الحدث المتنبّأ عنه.
- عند قراءة النص المقدس، على الدارس ان يأخذ بعين الاعتبار: الكاتب وبيئته الحضارية، زمن الكتابة، المفاهيم الدينية آنذاك، البنية الأدبية للنص، الكلمات في النص الأصلي ومعانيها في زمن الكتابة.
- تعرّض الكتاب المقدس لعلوم النقد كلها وخرج منها في حلة أقرب إلى الحقيقة. إن علوم النقد لا تنقض كلمة الله بل تبلورها وتصفّيها وتجرّدها من كل الشوائب العالقة بها. لذلك لا نخاف على الكتاب المقدس من هذه العلوم النقدية.
- وأخيراً، ما زالت كلمة الله، مفعّلة بالروح القدس، حاملة رسالة الله للانسان، ما زالت تدخل القلوب وتعمل عملها. وننهي مع كاتب الرسالة إلى العبرانيين: “لأن كلمة الله حيّة وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عبرانيين 4: 12).
وبرأينا، لو بقيت قراءة المسيحيين للنص المقدس بمعزل عن علوم النقد وعن العلوم الانسانية الأخرى، لبقي المسيحيون سلفيين، منعزلين مسجونين في قوالب متحجرة ومسلّمات بالية، بعيدين عن ركب الحضارة العالمية بل على عداء معها، يركضون ويبقون في دائرة العصور الوسطى. إن تعريض الكتاب المقدس لعلوم النقد عزّز مصداقيته للمؤمن وساعده على تأوين مفاهيمه الإيمانية لكي يعيشها في عصر العلوم الإنسانية الحديثة، ونقل الفكر المسيحي نقلة نوعية من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، وتبثّ بحق “أن كل الكتاب موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح” (2تيموثاوس 3: 16-17).
ولا يظنّن أحد أن قراءة الكتاب المقدس على ضوء العلوم الإنسانية الحديثة تؤثر سلباً على نوعية ومقدار الإيمان. الإيمان خيار شخصي غير مؤسس على نص، بل النص يخدمه. الإيمان الشخصي ينبع من عمق الكيان البشري في الإنسان، لأن الإنسان، كل إنسان، في أعماقه هو إنسان مؤمن.
________________________________________________
[1] نعني بالتوراة “البنتاتيوكس” أو أسفار موسى الخمسة، المسماة أيضاً أسفار الشريعة.
[2] النصوص البيبلية في هذه المقالة هي بحسب “الكتاب المقدس” ترجمة فاندايك – البستاني، ما لم يُشر إلى خلافه.
[3] Keith N. SCHOVILLE, Biblical Archaeology, Grand Rapids: Baker, 1989; Gaalyal CORNFELD, archaeology OF The Bible Book by Book, London: Adam and Charles Black, 1976.
[4] Henri – Charles PEUCH (Directeur d’édition), Histoires des Religions, 6 volumes, Paris : Gallimard, 1970-1976.
[5] رياض يوسف داود، أضواء على البنى الأدبية في الأناجيل، موسوعة المعرفة المسيحية، الكتاب المقدس رقم 10، بيروت: دار المشرق، 1997.
[6] رياض يوسف داود، مدخل إلى النقد الكتابي، موسوعة المعرفة المسيحية، الكتاب المقدس رقم 9، بيروت: دار المشرق، 1997.
RECENT POSTS
البيئة في الكتاب المقدَّس
البيئة في الكتاب المقدَّس الدكتور دانيال عيّوش RECENT POSTS
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ الخوري د. سامي نعمة RECENT POSTS
المواطنة في الكتاب المقدَّس
المواطنة في العهد الجديد الخوري الدكتور باسم الراعي* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023) مقدّمة القسّ د. عيسى دياب هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها...