الوطن في الكتاب المقدس
مفهوم الوطن في الكتاب المقدَّس
القسّ د. عيسى دياب*
(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 3/3/2023)
هذه الندوة هي الأولى لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها موضوع “الوطن والمواطنة في الكتاب المقدَّس”. إنّ الظروف التي نعيشها في لبنان هي التي أوحَت لنا بهذا الموضوع، لكنّنا نتناول الموضوع بصورة علميّة، كما جاء في الكتاب المقدَّس؛ إيمانًا منّا بأنّه موضوع مفيد للمؤمنين في كلّ بلد.
“الوطن” هو الأرض التي وُلدتُ وتربّيتُ وأعيش فيها، والشعب الذي أنتمي إليه، والتاريخ الذي عشتُه وأعيشه، والمساحة، المادّيّة والمعنويّة والنفسيّة، التي أمّنَت لي العيش والاستقرار، والفضاء الذي أُحبّه، وأحنّ وأشتاق إليه، وتتولّد عندي النوستالجيا عندما أتذكّره.
هذا على الصعيد الإنسانيّ، لكنْ، ماذا يُعلِّم الكتاب المقدَّس بشأن الوطن ومكوّناته؟ وهل للموضوع علاقة بالدِّين والتديّن والإلهيّات؟ وهل في الله وجه للمؤمن، ما يشبه الوطن للإنسان؟ بالفعل، الكتاب المقدَّس يتكلّم عن “الأرض”، و”الشعب”، والراحة، والاستقرار. وللأرض شريعة، وللراحة على الأرض شروط؛ والانتماء لـ “شعب الله” يفرض موجبات ويعطي امتيازات.
كيف يمكننا أنْ نطبّق تعليم الكتاب المقدَّس عن الوطن في الحالة اللبنانيّة التي، أقلّ ما يُقال فيها، إنّ وطننا هزيل، ومريض، وسقيم. وهل للمؤمن دور يلعبه في شفاء الوطن، وما هو هذا الدور؟
هذه الأسئلة وغيرها يتناولها المحاضر، ليستخرج لنا، مِن الكتاب المقدَّس، تعليم كلمة الله عن الوطن، مِن خلال قراءة علميّة وروحيّة للنصوص المقدَّسة.
محاضرة القسّ د. عيسى دياب
بدايةً، أنا مدين لزميلتي الدكتورة بيتسا ستيفانو لاعتمادي على مقالتها المعنونة “ما بين وطنٍ أرضيّ ووطنٍ سماويّ- سوء فهْم لملكوت وتوقٌ إلى الملكوت…”؛ المنشورة في مجلّة المشرق بتاريخ 15 كانون الأول/ديسمبر 2017؛ ومقالة المطران جورج خضر المعنونة “الوطن” المنشورة في جريدة النهار بتاريخ 11 تموز/يوليو 2009.
“وطنيّة”…”مواطنة”… “توطين “… تلك الكلمات التي تتواتر على أسماعنا كلّ يوم هي مشتقّة مِن جذر ثلاثيّ “وطن”.
الوطن ليس مجرّد كلمة تُقال بشكلٍ عابرٍ، إنّما مفهومٌ واسعٌ باتّساع الحياة. لا يمكن حصره في كلماتٍ قليلةٍ. ليس هو الأرض، وليس هو الدولة، وليس هو النظام، وليس هو الشعب أو الأمّة؛ وفي الوقت نفسه، هو هذه كلّها. زد على ذلك، هو “الحالة التي يولّدها مجموع هذه المفردات. فالوطن هو المكان الذي يضمّنا بين أحضانه، هو البيت الكبير الذي تستريح فيه النفس، وتأوي إليه الروح، وهو الأرض الرحبة التي نحيا فيها ونموت وندفن فيها، فإنْ سافرنا نشتاق إليه، وإنْ عدنا إليه قبّلنا ترابه شوقًا وشغفًا”.
لكي نتمكّن مِن الكلام عن “الوطن في الكتاب المقدَّس”، علينا أنْ نعرف أوّلًا ما هو الوطن! لذلك، نحاول أوّلًا أنْ نشرح باختصار ما هو الوطن في اللغة وفي العلوم الاجتماعيّة، وثمّ نحاول أنْ نستعرض ماذا يقول الكتاب المقدَّس عن “الوطن”. وكقسم تطبيقيّ، نتكلّم قليلًا عن الكنيسة الوطنيّة.
1. الوطن بالبعد اللغويّ والاجتماعيّ
1-1. الوطن في اللغة
جاء في “قاموس المعاني الجامع” : وَطَنَ: (فعل) وطَنَ، يَطِن، طِنْ، وَطْنًا، فهو “واطِن”، والمفعول “موطون به”. وطَن فلانٌ بالمكانِ : أقام به، سكَنه وألِفه واتَّخذه وطَنًا. وَطَن: (اسم)، الجمع : أوطانٌ، مكانُ إِقامةِ الإِنسان وَمقَرُّه ، وإليه انتماؤه ، وُلد به أَو لم يولد.[1]
والفعل وطّن لا يُستخدَم للإنسان وحده بل للنبات والحيوان بمعنى “طبّعهما أو ألّفهما على بيئة جديدة. وحين يوطّن الإنسان نفسَه على أمر فهذا يعني أنّه حَمَله عليه وهيَّأه لفعله”.
1-2. الوطن في العلوم الاجتماعيّة
الوطن هو مكان الإنسان ومحلّه. عبارة عن المكان الذي يرتبط به الشعب ارتباطًا تاريخيًّا طويلًا. المنطقة التي تولّدت فيها الهويّة الوطنيّة للشعب. الوطن الأصليّ هو مولد الشخص والبلد الذي هو فيه. وطن الإقامة موضع ينوي أنْ يستقرّ فيه خمسة عشر يومًا أو أكثر مِن غير أنْ يتّخذه مسكنًا.[2]
قام سيادة المطران جورج خضر بتعريف الوطن قائلًا: “الوطن انتساب قانونيّ تريده وليس فقط الرقعة التي تولد عليها (…) والدولة تُشكَّل انطلاقًا مِن أناس يرتضونها ويؤلّفونها (…).[3]
لماذا الأوطان؟ لأنّ الإنسان لا يستطيع أنْ يعيش وحده، منعزلًا في جزيرة، ولأنّه يحيا على رقعة مِن هذه الأرض يجد فيها مَن يحبّه، ولأنّه يجني ثمرة أتعابه ولقمة عيشه بالتعاون فيها والتعاضد. ويضيف المطران خضر: “إذا سُمِح لي باستعمال تعبير دينيّ، ينهض البلد مِن بَعد انهيار إذا كان فيه أبرار ينتعش بهم الناس ويرجون الخلاص. أمّا إذا قلّ الأبرار فيذوي البلد ويذبل”[4].
أنا أجتهد وأصيغ التعريف التالي للوطن: “الوطن هو الأرض والشعب الذين أنتمي إليهما منذ عهد أجدادي؛ والوضع الذي ولدته للشعب، على الأرض، الدولة ونظام الحكم؛ والحالة العاطفيّة التي ولدَتها الحياة والذكريات.
ترجمة “وطن” إلى الفرنسيّة patrie؛ أمّا إلى الإنكليزيّة، فلا يوجد كلمة واحدة تعبّر عن “وطن”، فهو homeland, fatherland, motherland, birthland, native land.
2. الوطن في الكتاب المقدَّس
في الكتاب المقدَّس، لا ترد كلمة “وطن” بحرفيّتها ولكنّها موجودة ضمنًا في إشارات واضحة، ليس عن الوطن فحسب، بل عن حبّ وشغف الانتماء إليه مِن طريق التغنّي بمدينة الولادة والمنشأ والذود عنها في حال تعرّضها للسبي أو للاحتلال.
2-1. الوطن في العهد القديم
2-1-1. الوطن في النصوص
◀أفضل تعريف للوطن في العهد القديم نجده في نصّ دعوة الله لإبراهيم (تكوين 12: 1):
“وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ”.[5]
וַיֹּאמֶר יְהוָה אֶל-אַבְרָם, לֶךְ-לְךָ מֵאַרְצְךָ וּמִמּוֹלַדְתְּךָ וּמִבֵּית אָבִיךָ, אֶל-הָאָרֶץ, אֲשֶׁר אַרְאֶךָּ.
حيث نجد أنّ الوطن هو الأرض والشعب، ومكان المولد، وبيت الأجداد.
◀عندما أرسل إبراهيم خادمه إليعازر الدمشقي ليجلب عروسًا لابنه إسحق، قال له (تكوين 24: 3-4 و7)
“فَأَسْتَحْلِفَكَ بِالرَّبِّ إِلهِ السَّمَاءِ وَإِلهِ الأَرْضِ أَنْ لاَ تَأْخُذَ زَوْجَةً لابْنِي مِنْ بَنَاتِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ، بَلْ إِلَى أَرْضِي وَإِلَى عَشِيرَتِي تَذْهَبُ وَتَأْخُذُ زَوْجَةً لابْنِي إِسْحَاقَ”.
اَلرَّبُّ إِلهُ السَّمَاءِ الَّذِي أَخَذَنِي مِنْ بَيْتِ أَبِي وَمِنْ أَرْضِ مِيلاَدِي، وَالَّذِي كَلَّمَنِي وَالَّذِي أَقْسَمَ لِي قَائِلًا: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، هُوَ يُرْسِلُ مَلاَكَهُ أَمَامَكَ، فَتَأْخُذُ زَوْجَةً لابْنِي مِنْ هُنَاكَ.
וְאַשְׁבִּיעֲךָ–בַּיהוָה אֱלֹהֵי הַשָּׁמַיִם, וֵאלֹהֵי הָאָרֶץ: אֲשֶׁר לֹא-תִקַּח אִשָּׁה, לִבְנִי, מִבְּנוֹת הַכְּנַעֲנִי, אֲשֶׁר אָנֹכִי יוֹשֵׁב בְּקִרְבּוֹ. כִּי אֶל-אַרְצִי וְאֶל-מוֹלַדְתִּי, תֵּלֵךְ; וְלָקַחְתָּ אִשָּׁה, לִבְנִי לְיִצְחָק.
יְהוָה אֱלֹהֵי הַשָּׁמַיִם, אֲשֶׁר לְקָחַנִי מִבֵּית אָבִי וּמֵאֶרֶץ מוֹלַדְתִּי, וַאֲשֶׁר דִּבֶּר-לִי וַאֲשֶׁר נִשְׁבַּע-לִי לֵאמֹר, לְזַרְעֲךָ אֶתֵּן אֶת-הָאָרֶץ הַזֹּאת–הוּא, יִשְׁלַח מַלְאָכוֹ לְפָנֶיךָ, וְלָקַחְתָּ אִשָּׁה לִבְנִי, מִשָּׁם.
◀ عندما كان موجودًا في مصر، طالب يعقوب مِن ابنه يوسف بقَسَمٍ يطالبه فيه بأن لا يدفنه حين توافيه المنيّة في أرض غريبة بل في أرض الميعاد (راجع تكوين 47: 29-31):
لاَ تَدْفِنِّي فِي مِصْرَ، بَلْ أَضْطَجعُ مَعَ آبَائِي، فَتَحْمِلُنِي مِنْ مِصْرَ وَتَدْفِنُنِي فِي مَقْبَرَتِهِمْ». فَقَالَ: «أَنَا أَفْعَلُ بِحَسَبِ قَوْلِكَ».
אַל-נָא תִקְבְּרֵנִי בְּמִצְרָיִם. וְשָׁכַבְתִּי, עִם-אֲבֹתַי, וּנְשָׂאתַנִי מִמִּצְרַיִם, וּקְבַרְתַּנִי בִּקְבֻרָתָם; וַיֹּאמַר, אָנֹכִי אֶעֱשֶׂה כִדְבָרֶךָ.
◀عندما التقى موسى حوباب بن رعوئيل المدياني حمي موسى في صحراء سيناء، وهو في الطريق إلى كنعان، وعرض عليه أن يذهب معهم إلى كنعان، أجابه حوباب (عدد 10: 30):
فَقَالَ لَهُ: «لاَ أَذْهَبُ، بَلْ إِلَى أَرْضِي وَإِلَى عَشِيرَتِي أَمْضِي».
וַיֹּאמֶר אֵלָיו, לֹא אֵלֵךְ: כִּי אִם-אֶל-אַרְצִי וְאֶל-מוֹלַדְתִּי, אֵלֵךְ.
◀لمّا تكلّم حزقيال عن زنا إسرائيل ويهوذا مع آلهة الكلدانيّين، وصف الكلدانيّين بالشكل التالي (حزقيال 23: 15):
مُنَطَّقِينَ بِمَنَاطِقَ عَلَى أَحْقَائِهِمْ، عَمَائِمُهُمْ مَسْدُولَةٌ عَلَى رُؤُوسِهِمْ. كُلُّهُمْ فِي الْمَنْظَرِ رُؤَسَاءُ مَرْكَبَاتٍ شِبْهُ بَنِي بَابِلَ الْكَلْدَانِيِّينَ أَرْضُ مِيلاَدِهِمْ،
חֲגוֹרֵי אֵזוֹר בְּמָתְנֵיהֶם, סְרוּחֵי טְבוּלִים בְּרָאשֵׁיהֶם–מַרְאֵה שָׁלִשִׁים, כֻּלָּם: דְּמוּת בְּנֵי-בָבֶל כַּשְׂדִּים, אֶרֶץ מוֹלַדְתָּם.
◀تكرّرَت في أسفار التوراة، عبارة “الوطنيّ والغريب” (لاويّين 16: 29؛ 17: 15؛ 18: 26؛ 19: 34؛ 24؛ 16؛ إلخ عدد 9: 14؛ 15: 13، 29، 30؛ 35: 15) في سياق تطبيق الشريعة (أنظر يشوع 8: 33؛ حزقيال 47: 28)
والكلمة العبريّة المستخدمة ” הָאֶזְרָח ” (ها-إزراح)، وتعني: الأصيل، الصريح، الوطني، مولود الأرض.
◀عندما هرب داود مِن ابنه أبشالوم، ذهب معه أتاي الجتي، فأمره العودة: “فَقَالَ الْمَلِكُ لإِتَّايَ الْجَتِّيِّ: «لِمَاذَا تَذْهَبُ أَنْتَ أَيْضًا مَعَنَا؟ اِرْجعْ وَأَقِمْ مَعَ الْمَلِكِ لأَنَّكَ غَرِيبٌ وَمَنْفِيٌّ أَيْضًا مِنْ وَطَنِكَ” (2 صموئيل 15: 19). هنا كلمة وطن ترجمة للكلمة العبريّة “مقوم”، ومعناها الأرض التي استوطنتها والحالة التي عشتها (المقام هو المكان والحالة).
◀عندما اشتاق بنو إسرائيل إلى وطنهم، وهم في السبي، أنشدوا مزمور 136:
“عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا، بَكَيْنَا أَيْضًا عِنْدَمَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ. عَلَى الصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا. لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبَوْنَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ، وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحًا قَائِلِينَ: «رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ». كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي! لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ، إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي!”
يعبّر هنا الشاعر عن نوستالجيا الشوق إلى الوطن. فهو يذكر الأرض، والحالة التي سبق وعاشها على الأرض.
والخلاصة هي أنّ “الوطن” في نصوص العهد القديم هو الأرض التي وُلد فيها ويحبّ أنْ يُدفن فيها، والشعب الذي ينتمي إليه ويحبّ أنْ يُدفن بينهم، والحالة التي عاشها على الأرض وبين الشعب.
2-1-2. الوطن في لاهوت العهد القديم
2-1-2-1. في الخلق
في بداية سِفر التكوين، قَبل أنْ يخلق اللهُ الإنسانَ، هيّأ له “الوطن” الذي سيعيش فيه. فعندما “َكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ”، كان” َرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.” “وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ” (تكوين 1: 1-3).
ولمّا كان “التهوم”، المياه الأوّلانيّة مسيطرة، أخرج اليابسة مِن تحت سلطتها: “وَقَالَ اللهُ: «لِتَجْتَمِعِ الْمِيَاهُ تَحْتَ السَّمَاءِ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَلْتَظْهَرِ الْيَابِسَةُ». وَكَانَ كَذلِكَ” (آية 9).
وخلق الله، على اليابسة، النبات والشجر المثمر الذي يصنع البذور للتكاثر؛ وستكون هذه طعامًا للإنسان (والحيوان): “فَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ عُشْبًا وَبَقْلًا يُبْزِرُ بِزْرًا كَجِنْسِهِ، وَشَجَرًا يَعْمَلُ ثَمَرًا بِزْرُهُ فِيهِ كَجِنْسِهِ” (آية 12).
ورتّب الله تعاقب الليل والنهار، وتعاقب الفصول (آيات 14-19). وثمّ خلق الحيوانات الزاحفة والدابّة والطائرة: “وَقَالَ اللهُ: «لِتَفِضِ الْمِيَاهُ زَحَّافَاتٍ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ، وَلْيَطِرْ طَيْرٌ فَوْقَ الأَرْضِ عَلَى وَجْهِ جَلَدِ السَّمَاءِ». فَخَلَقَ اللهُ التَّنَانِينَ الْعِظَامَ، وَكُلَّ ذَوَاتِ الأَنْفُسِ الْحيَّةِ الدَّبَّابَةِ الَّتِي فَاضَتْ بِهَا الْمِيَاهُ كَأَجْنَاسِهَا، وَكُلَّ طَائِرٍ ذِي جَنَاحٍ كَجِنْسِهِ. وَرَأَى اللهُ ذلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ. وَبَارَكَهَا اللهُ قَائِلًا: «أَثْمِرِي وَاكْثُرِي وَامْلإِي الْمِيَاهَ فِي الْبِحَارِ. وَلْيَكْثُرِ الطَّيْرُ عَلَى الأَرْضِ»” (آية 20-22؛ أنظر آيات 23-25).
ثمّ أخيرًا، خلق اللهُ الإنسانَ: “وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا، فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ، وَعَلَى كُلِّ الأَرْضِ، وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».
وأعطى الله الإنسان طعامًا من الأرض: “وَقَالَ اللهُ: «إِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُكُمْ كُلَّ بَقْلٍ يُبْزِرُ بِزْرًا عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، وَكُلَّ شَجَرٍ فِيهِ ثَمَرُ شَجَرٍ يُبْزِرُ بِزْرًا لَكُمْ يَكُونُ طَعَامًا” (آية 29).
وأخذ الله الإنسان مِن الأرض الواسعة، ووضعه في جنّة عدن: “وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ. وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. … وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا” (تكوين 2: 8-15).
2-1-2-2. الأرض الوطن والعهد
بحسب العهد الذي أقامه الله مع بني إسرائيل، أرض الموعد أصبحَت هي الوطن. وبموجبه، الوطن هو الأرض، عطيّة الله، وفيها الهيكل، حيث يسكن عليها الله في وسط شعبه.
إنّ أمانة الشعب للعهد تنعكس بركة على الأرض/الوطن، وخيانته للعهد تنعكس على الأرض/الوطن لعنة. فسقوط آدم وحواء في الخطيئة سبَّب للأرض اللعنة (تكوين 3: 17)؛ وفي الشريعة، عدم الأمانة للعهد ينجّس الأرض:
“«بِكُلِّ هذِهِ لاَ تَتَنَجَّسُوا، لأَنَّهُ بِكُلِّ هذِهِ قَدْ تَنَجَّسَ الشُّعُوبُ الَّذِينَ أَنَا طَارِدُهُمْ مِنْ أَمَامِكُمْ فَتَنَجَّسَتِ الأَرْضُ. فَأَجْتَزِي ذَنْبَهَا مِنْهَا، فَتَقْذِفُ الأَرْضُ سُكَّانَهَا. لكِنْ تَحْفَظُونَ أَنْتُمْ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي، وَلاَ تَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ هذِهِ الرَّجَسَاتِ، لاَ الْوَطَنِيُّ وَلاَ الْغَرِيبُ النَّازِلُ فِي وَسَطِكُمْ، لأَنَّ جَمِيعَ هذِهِ الرَّجَسَاتِ قَدْ عَمِلَهَا أَهْلُ الأَرْضِ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ فَتَنَجَّسَتِ الأَرْضُ. فَلاَ تَقْذِفُكُمُ الأَرْضُ بِتَنْجِيسِكُمْ إِيَّاهَا كَمَا قَذَفَتِ الشُّعُوبَ الَّتِي قَبْلَكُمْ. بَلْ كُلُّ مَنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ هذِهِ الرَّجَسَاتِ تُقْطَعُ الأَنْفُسُ الَّتِي تَعْمَلُهَا مِنْ شَعْبِهَا. فَتَحْفَظُونَ شَعَائِرِي لِكَيْ لاَ تَعْمَلُوا شَيْئًا مِنَ الرُّسُومِ الرَّجِسَةِ الَّتِي عُمِلَتْ قَبْلَكُمْ وَلاَ تَتَنَجَّسُوا بِهَا. أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ» (لاويّين 18).
والسبي، الجلاء عن الوطن، حصل لأنّ الشعب خان العهد، ويعود إلى الوطن عندما يتوب ويعيش الأمانة للعهد.
كما أنّ خيانة الشعب للعهد تُصيب الأرض بلعن، فتوبة الشعب تشفي الأرض/الوطن مِن لعنته:
إِنْ أَغْلَقْتُ السَّمَاءَ وَلَمْ يَكُنْ مَطَرٌ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ الأَرْضَ، وَإِنْ أَرْسَلْتُ وَبَأ عَلَى شَعْبِي، فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ” (2 أخبار 7: 13-14).
أخيرًا، في العهد القديم أمثلة كثيرة تشير إلى المحبّة والإخلاص للوطن والانتماء إليه ولا مجال هنا لسردها. لقد أشاد أنبياء العهد القديم كثيرًا بأوطانهم، ومنهم إرميا النبيّ: “يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلًا قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي” (إرميا 9: 1). ويحذّر النبيّ أهل وطنه: “لاَ تَبْكُوا مَيْتًا وَلاَ تَنْدُبُوهُ. ابْكُوا، ابْكُوا مَنْ يَمْضِي، لأَنَّهُ لاَ يَرْجعُ بَعْدُ فَيَرَى أَرْضَ مِيلاَدِهِ” (إرميا 22: 10). وسِفر مراثي إرميا ما هو إلّا رثاء على وطن مفقود.
2-2. الوطن في العهد الجديد
في العهد الجديد، يتحوّل الاهتمام مِن الوطن الأرض، إلى وطن آخَر سماويّ، لكنْ مِن دون إهمال الأوّل.
2-2-1. نصوص العهد الجديد التي تتكلّم عن “الوطن”
◀ استوطن يسوع بلدة كفرناحوم، وصارت تسمّيها النصوص “وطنه” (متّى 13: 54؛ مرقس 6: 1؛ 4: 23. في لوقا 4: 23 “وطنك”)
◀عندما كان الشعب يعثر بيسوع، فكان يسوع يشير إلى مَثل شائع يقول: “ليس نبيّ بلا كرامة إلّا في وطنه” (متّى 13: 57؛ مرقس 6: 4؛ لوقا 4: 24؛ يوحنّا 4: 44)
الكلمة اليونانيّة المستخدمة في هذه النصوص (πατρίδα αὐτοῦ) وتعني “وطنه”، “منطقته”.
◀لقد أحبّ يسوع وطنه، وأدّى فيه رسالته التعليميّة. وأراده أنْ يستفيد مِن هذه الرسالة الخلاصيّة، فقام بكلّ المحاولات للوصول إلى هذا المبتغى، لكنْ مِن دون فائدة. وعندما رأى وطنه يتهاوى رافضًا رسالته، وبالتالي الرجوع إلى الله، رثاه: “يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلاَدَكِ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!” (متّى 24: 37). وأكثر مِن ذلك، فقد بكى يسوع على المدينة (على الوطن بشعبه): لوقا 41:19-43.
ليس تعلُّق يسوع بوطنه تشبّثًا بأرضٍ ولا استئثارًا بمساحة جغرافيّة ضيّقة تحدّها العصبيّة والتعصّب. “… تأتي ساعةٌ فيها تَعبُدونَ الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم. (…) تأتي ساعةٌ، وقد حَضَرتِ الآن، فيها العِبادُ الصادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ (…)” (يوحنّا 4: 21-23).
2-2-2. مِن وطن أرضيّ إلى وطن سماويّ
بقدر ما كان شعب العهد القديم يشدّد على وطن أرضيّ، جاء تعليم المسيح في العهد الجديد ينادي بوطن سماويّ تحت اسم “ملكوت الله” أو “ملكوت السماوات”.
أرض الموعد، في تعليم المسيح، ليست بقعة جغرافيّة، بل الكيان الذي يحكم فيه الله، وفيه يعيش المؤمنون بحسب شريعة الله الأخلاقيّة، وعلى تواصل روحيّ مع الله، وفيه تتمّ “مشيئة الله” أي قصده الصالح في الخليقة. وبهذا المعنى علّم المسيح في التطويبات: “طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ” (متّى 5: 3)؛ “طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ” (متّى 5: 5)؛ “طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ” (متّى 5: 8)؛ “طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ” (متّى 5: 10).
ويتكلّم بولس عن الانتقال مِن “الوطن الأرضيّ” إلى “الوطن السماويّ” فيقول:
“لأَنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ نُقِضَ بَيْتُ خَيْمَتِنَا الأَرْضِيُّ، فَلَنَا فِي السَّمَاوَاتِ بِنَاءٌ مِنَ اللهِ، بَيْتٌ غَيْرُ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، أَبَدِيٌّ. فَإِنَّنَا فِي هذِهِ أَيْضًا نَئِنُّ مُشْتَاقِينَ إِلَى أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا مَسْكَنَنَا الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ. وَإِنْ كُنَّا لاَبِسِينَ لاَ نُوجَدُ عُرَاةً. فَإِنَّنَا نَحْنُ الَّذِينَ فِي الْخَيْمَةِ نَئِنُّ مُثْقَلِينَ، إِذْ لَسْنَا نُرِيدُ أَنْ نَخْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، لِكَيْ يُبْتَلَعَ الْمَائِتُ مِنَ الْحَيَاةِ. وَلكِنَّ الَّذِي صَنَعَنَا لِهذَا عَيْنِهِ هُوَ اللهُ، الَّذِي أَعْطَانَا أَيْضًا عَرْبُونَ الرُّوحِ. فَإِذًا نَحْنُ وَاثِقُونَ كُلَّ حِينٍ وَعَالِمُونَ أَنَّنَا وَنَحْنُ مُسْتَوْطِنُونَ فِي الْجَسَدِ، فَنَحْنُ مُتَغَرِّبُونَ عَنِ الرَّبِّ. لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ. فَنَثِقُ وَنُسَرُّ بِالأَوْلَى أَنْ نَتَغَرَّبَ عَنِ الْجَسَدِ وَنَسْتَوْطِنَ عِنْدَ الرَّبِّ. لِذلِكَ نَحْتَرِصُ أَيْضًا مُسْتَوْطِنِينَ كُنَّا أَوْ مُتَغَرِّبِينَ أَنْ نَكُونَ مَرْضِيِّينَ عِنْدَهُ” (2كورنثوس 5: 1-9).
بَعد أنْ يعدّد كاتب العبرانيّين أبطال الإيمان، ويذكر بعض مآثرهم، يقول عنهم:
فِي الإِيمَانِ مَاتَ هؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ. فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَنًا. فَلَوْ ذَكَرُوا ذلِكَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ. وَلكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَنًا أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيًّا. لِذلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً” (عبرانيّين 11: 13-16).
2-2-3. ليس مِن أبديّة في الوطن، وليس مِن وطن أبديّ
ليس مِن مواطن أبديّ، وليس مِن وطن أبديّ. كما أنّ للمواطنين نهايات على الأرض، فللأوطان متغيّرات ونهايات.
الوطن غير نهائيّ إلّا في عقل الجماعة التي تعتقد أنّ “الوطن الذي يصنعه الناس بالحبّ والجهد نهائيّ في أمانيه على الأقلّ وإنْ تكن النهائيّة المطلقة لله إذ تتغيّر الشعوب (…) وقد ماتت دول ونشأت دول وماتت أوطان وظهرت أوطان. في هذا الحقل ليس مِن أبديّة…”[6].
مِن هنا لا داعي إلى تصوّر الوطن مترسِّخًا في التاريخ القديم لأنّ معظم البلدان الحاليّة مستحدثة فهل يتمتّع وطنٌ ما بامتيازٍ مِن دون الآخَر؟
“ليس مِن بلد عنده امتياز البقاء مِن الله. الله لا يحبّ بلدًا بصورة خاصّة لأنّه اختاره منذ الأزل…”[7]. لا امتياز لشعبٍ من دون الآخَر ولا أرض متميّزة ومميّزة من دون سائر الأراضي.
اعتقد اليهود أنّ المسيّا المخلّص سيأتي لإنقاذهم مِن بطش السلطة الرومانيّة، إلّا أنّ يسوع المسيح لم يأتِ إلّا ليبشّر ويكرز بملكوتٍ سماويّ وليس بملكوتٍ أرضيّ. لذلك، فالمسيحيّ المؤمن الحقيقيّ يدرك أنّ توقه هو إلى السماء. هذا الإدراك يزيده التزامًا بالوطن الأرضيّ ليشهد للوطن السماويّ مِن خلال سلوكه العمليّ واليوميّ ومِن خلال سلوكه وأمانته والتزامه نحو الوطن.
لذلك، الوطن الأرضي بالنسبة للمؤمن محطّة مؤقتة. فيها نقضي أيام غربتنا، ومنها ننطلق، في نهاية المطاف إلى الوطن السماويّ.
الحياة المسيحيّة هي حياة الغربة. لا وطن لمَن لا يستوطنون عند الربّ.
3. الكنيسة الوطنيّة والوطن
الكنيسة هي جماعة المؤمنين. لكنّ هؤلاء المؤمنين ينتمون إلى أوطان. مِن هنا يأتي في علم اللاهوت مصطلح “الكنيسة الوطنيّة”. الكنيسة الوطنيّة هي الكنيسة المرتبطة بجماعة عرقيّة محدّدة أو دولة قوميّة. ولا يزال مفهوم الكنيسة الوطنيّة حاضرًا في عدد مِن الدول الأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة مِثل إنجلترا وخصوصًا الدول الإسكندنافيّة. في المسيحيّة الشرقيّة، غالبيّة الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة هي كنائس وطنيّة عرقيّة لشعوب المنطقة.
مِن ضمن الخلقيّة الكنسيّة المسيحيّة الإخلاص للوطن والتحلّي بالروح الوطنيّة. هذا سيكون موضوع المحاضرة القادمة “المواطنة في الكتاب المقدَّس”.
الكنيسة الوطنيّة تلتزم بقضايا الوطن بمقدار ما تكون قضايا الوطن محقّة ومنسجمة مع الخلقيّة الإلهيّة.
الخلاصة
الالتزام نحو الوطن والاستعداد للوطن السماويّ
يكون خضوع المؤمن للسلطان مِن طريق إيفاء الوطن حقّه عليه إذ يقول الرسول: “فاعطوا الجميع حقوقهم، الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية…” (رومية 13، 6-7). بهذا المنحى، تُفهَم الوصيّة: “أَدّوا لِقَيصر ما لِقَيصر، ولله ما لله” (متّى 22: 21) أمانةً للوطن الأرضيّ وللوطن السماويّ الذي يستعدّ المؤمن له. فكيف تتحدّد بالتالي معالم الكنيسة الوطنيّة؟
يشخّص المطران خضر هذا الهذيان الدائر خارج محور الأرض ويقول: “تحسبون أنّ بركات الله نازلة على لبنان منذ الأزل. هذه هي الكذبة الكبرى. البركة تشمل فقط الإنسان الطاهر ولا تميّز بلدًا (…) كفّوا عن التغنّي بلبنان إن لم تتوبوا. لا يقوم لبنان بلا ناس أنقياء، بلا حكم صالح. ليس مِن نهائيّة لبلد لم يضع أساسًا لنهائيّته. الذين لا يستوطنون عند الربّ لا وطن لهم هنا. والذين لا يسعون إلى بلد يجعلونه مقرًّا لله سيموت بلدهم آجلًا أَمْ عاجلًا.”[8]
ويتابع المطران خضر: “إنْ أحببتم حقيقة الله تجدون حقيقة الإنسان والناس جميعًا. الوطن هو في هذه الحقيقة (…)”[9] ومِن هنا ضرورة التوبة.
“التوبة الوطنيّة تبدأ مِن قبول الآخَر واختلافه”. مِن هنا يتساءل المطران خضر: “أين يقف الخلاف ليصبح مجرّد اختلاف؟” يجيب المطران: “أظنّ أنّنا كنّا سطحيّين في عصر النهضة في تبنّينا شعار “الدين لله والوطن للجميع” غير عارفين أنّ علاقتك بالله أو صورة علاقتك به وبأهل دِينك مِن الأشياء التي تحدّد العلائق في الوطن”. وفيما يتعلّق بهويّة الوطن أو هويّتنا داخل الوطن “لا مخرج مِن التساؤل عن هويّتنا الطائفيّة… إلّا بإقرار هويّة الآخر (…)”[10] في سرّ فرادته.
إنّ كانت عدّة أوطان بُنيَت على إقصاء الآخَر، قامَت أوطان أو قد تقوم أوطان على قبول الآخَر لكي يكون المواطن مواطنًا بحقّ حين يقرّ بهويّة أخرى هي “هويّة الآخَر” في الوطن المترسِّخ كالشجرة في أرضها، كي تحيا ثانيةً، بَعد أنْ تكون قد ماتت واقفة وأغصانها نحو السماء وارفة.
_____________________________________________
- القسّ عيسى دياب راعي في الكنيسة الإنجيليّة، يحمل أربع شهادات دكتوراه: اللاهوت، وتاريخ الديانات السّاميّة، والفكر الإسلاميّ، وفيلولوجيّة الكتاب المقدَّس، وشهادة الجدارة في الإشراف على البحوث. درَّس في عدد مِن الجامعات في لبنان والخارج، ويدرّس اليوم في جامعة القدّيس يوسف وكلّيّة اللاهوت للشرق الأدنى. هو مستشار ترجمة الكتاب المقدَّس في الاتّحاد العالميّ لجمعيّات الكتاب المقدَّس، وعضو في الرابطة الكتابيّة.
[1] https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%88%D8%B7%D9%86/
[2] “وطن” في ويكيبيديا
[3] المطران جورج خضر، “الوطن” جريدة النهار السبت 11 تموز 2009. https://georgeskhodr.org/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%AA-11-%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%B2-2009/
[4] المطران جورج خضر، “الوطن” جريدة النهار السبت 11 تموز 2009. https://georgeskhodr.org/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%AA-11-%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%B2-2009
[5] النصوص البيبليّة الواردة في هذه المقالة هي بحسب الترجمة الانجيليّة العربيّة للكتاب المقدَّس (فاندايك)، بشكل عامّ.
[6] المطران جورج خضر، “الوطن” جريدة النهار السبت 11 تموز 2009. https://georgeskhodr.org/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%AA-11-%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%B2-2009
[7] المطران جورج خضر، “الوطن” جريدة النهار السبت 11 تموز 2009. https://georgeskhodr.org/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%AA-11-%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%B2-2009
[8] المطران جورج خضر، “الوطن” جريدة النهار السبت 11 تموز 2009. https://georgeskhodr.org/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%AA-11-%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%B2-2009
[9] المطران جورج خضر، “الوطن” جريدة النهار السبت 11 تموز 2009. https://georgeskhodr.org/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%AA-11-%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%B2-2009
[10] المطران جورج خضر، “الوطن” جريدة النهار السبت 11 تموز 2009. https://georgeskhodr.org/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D8%AA-11-%D8%AA%D9%85%D9%88%D8%B2-2009
RECENT POSTS
فداء الخليقة في الكتاب المقدَّس
فداء الخليقة في الكتاب المقدَّس المونسنيور د. أنطوان مخايل RECENT POSTS
البيئة في الكتاب المقدَّس
البيئة في الكتاب المقدَّس الدكتور دانيال عيّوش RECENT POSTS
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ الخوري د. سامي نعمة RECENT POSTS