“عرض تاريخي وأدبي لترجمة “الفشيطتا

الأب د. روجيه – يوسف أخرس

الأب د. روجيه – يوسف أخرس*

(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2017)

بإزاء الفولغاتا في الكنيسة اللاتينية، والسبعينية والكويني (κοινἠ) في الكنيسة اليونانية، تُعتَبَر الفشيطتا الترجمة الرسمية المشتركة بين الكنائس السريانية كافّة (الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، كنيسة المشرق الآشورية، الكنيسة السريانية المارونية، الكنيسة السريانية الكاثوليكية، الكنيسة الكلدانية). وإنّ كونها إرثًا مشتركًا لهذه الكنائس مردّه إلى وجود هذه الترجمة قبل بداية انقسام الكنائس في القرن الخامس. لكن بخلاف الفولغاتا اللاتينية والترجمات السريانية الأخرى، فإنّ الفشيطتا لا ترتبط باسم مُترجِمٍ معيّن، بل هناك اسمٌ واحدٌ يجمع قسميها: العهد القديم والعهد الجديد، على الرغم من الاختلاف التامّ في ظروف نشوئهما. فمن الواضح أنّ تاريخ وظروف ترجمة العهد القديم المعروفة باسم فشيطتا مغايرة تمامًا لتاريخ وظروف ترجمة العهد الجديد المسمّاة أيضًا فشيطتا. وهو ما سنعرضه فيما يلي، في شكل بحث شاملٍ (synthèse)، معتمدين على الدراسات المتخصّصة في هذا المجال، وهي كثيرة[1]، من غير الادّعاء بالإتيان بجديد في هذا المضمار.

أوّلاً فشيطتا العهد القديم

1- المخطوطات

إنّ أقدم المخطوطات التي تحوي العهد القديم هي مخطوطات يونانيّة، ترقى للنصف الثاني من القرن الرابع (الفاتيكانية)، وأواخر القرن الرابع (السينائية) وبداية القرن الخامس (الإسكندرية). يليها مباشرةً مخطوط أمبروسيانوس الحاوي العهد القديم بالسريانية وهو من القرن السادس أو السابع. أمّا النسخ العبريّة الكاملة فأقدمها النسخ المسّوريّة التي تعود إلى القرنين العاشر والحادي عشر (مجلّد حلب وسان بترسبورغ).

من جهة أخرى، إنّ أقدم مخطوطَين مؤرَّخَين يحويان جزءًا من الكتاب المقدس هما مخطوطان سريانيّان محفوظان في لندن : Add. 14512 الذي يرقى إلى سنة 459/460م (مخطوط ممحى بالحك، فيه نصّ أشعياء)، وAdd. 14425 الذي يرقى إلى سنة 463/464 (وفيه نصّ التوراة). وهذا يعني أنّ هناك فارق من نحو ثلاثمئة سنة بين السنوات التي تُرجمت فيها الفشيطتا وأقدم مخطوط يحفظها لنا.

تجدر الإشارة إلى وجود 17 مخطوطة من القرنين الخامس والسادس تحوي أحد الأسفار الكتابية؛ و12 مخطوطًا من القرن السابع. بعد ذلك، يتناقص العدد. وبدءًا من القرن التاسع والعاشر، تكثر كتب القراءات.

وقد أحصى العلماء نحو 360 مخطوطًا من القرن الخامس حتى التاسع عشر، تنقل لنا نصّ الفشيطتا، ناهيك عن حوالي 230 مخطوطًا تنقل المزامير والأناشيد على حدة، وأربعين مخطوطًا تنقلها مع كتب أخرى.

في المخطوطات القديمة، أي من القرن الخامس إلى الثاني عشر، ثمّة أربع مخطوطات تنقل لنا العهد القديم كاملاً وهي موجودة في ميلانو (7a1) وباريس (8a1) وفلورنسا (9a1) وكمبردج (12a1)[2].

 

2- تسميتها بالبسيطة

تُسمّى ترجمة الفشيطتا أحيانًا بالسريانية القديمة (vetus syra). السريان يسمّونها “ترجمتنا” أو “الترجمة السريانية القديمة”. لا يبدو أنّ كلمة فشيطتا ظهرت قبل القرن التاسع: نجدها لدى موسى ابن كيفا (813-903)، في تفسير الأيام الستة وفي مقدمته إلى كتاب المزامير، ويُظنّ أنّه ورثها من القرن الثامن؛ وتعني البسيطة أي اليسيرة والشائعة (المنبسطة، المنتشرة، الواضحة التي تفهمها العامّة)، بخلاف المترجمة عن اليونانية، المعروفة بالسداسية (Syro-Hexaplaire) وهي معقّدة ومحفوظة للعلماء وقد قام بها سنة 616/617 بولس مطران تلاّ الذي لجأ إلى الإسكندرية. وهي ترجمة العامود الخامس من هكسبلا (سداسية) أوريجانس، أي الترجمة السبعينية التي يستخدمها أوريجانوس في كتاباته[3].

 

3- تاريخ ومكان الترجمة، وهويّة المترجمين

تاريخ ترجمة الفشيطتا غير معروف بالتحديد لكنها حوالي سنة 150م وعلى أي حال قبل نهاية القرن الثاني.

مكان الترجمة هو إمّا الرها أو حدياب (أربيل)، مع أرجحية أن تكون الرّها.

لا شكّ أنّ المترجمين من أصل يهودي، لأنّ ترجمة كهذه تتطلّب تضلّعًا باللغة العبرية. من الممكن أنّهم كانوا مسيحيين من أصل يهودي ومن الممكن جدًّا أنّهم كانوا يهودًا غير مسيحيين. والرأي الثاني له أرجحية، لأنّ هذه الترجمة بدأت قبل ترجمة العهد الجديد إلى السريانية، حيث نجد أن ططيانوس يستعين بها في دياطسّرونه. فهل يُعقَل أن يُترجم المسيحيون العهد القديم إلى السريانية قبل الجديد؟ على أيّة حال، يفترض العلماء أن تكون بعض الأسفار تُرجمت على يد يهود، وبعضها الآخر كحكمة ابن سيراخ على يد مسيحيّين من أصل يهودي.

 

4- علاقة الفشيطتا بالنص العبري

تتميّز الفشيطتا السريانية بأنّها ترجمة عن النصّ العبري، على عكس باقي الترجمات القديمة (اللاتينية القديمة، القبطية، الجعزية، الأرمنية القديمة، الفلسطينية السريانية، العربية القديمة وهي اليوم مفقودة، والسلافية، وربما الجيورجية) التي هي ترجمات عن السبعينية اليونانية. بالنسبة إلى علاقة الفشيطتا بالنص العبري، يفترض العلماء أوّلاً أن النصّ العبري كان قد تثبّت في القرن الثاني، عند ترجمة الفشيطتا، وهو عينه النص المسّوري المحفوظ في مخطوطات القرن العاشر وما بعد. مع ذلك، ما زالت هناك مسائل لم تُحسَم: هل النص العبري الذي تستخدمه الفشيطتا هو نفسه النصّ المسّوري أم نص آخر قريب منه؟ هل هذا النصّ الآخر هو الذي منه تُرجمت السبعينيّة اليونانية، ولو جزئيًا؟ هل الفروق بين الفشيطتا والنص المسّوري، مردّها إلى النصّ العبري المختلف الذي استخدمه مترجمو الفشيطتا، أم إلى تأثير مباشر من السبعينية، أم إلى تأثير من التراجم، أم إلى أساليب الترجمة وتقنياتها، أم إلى مراجعات متتالية للترجمة السريانية؟ قد يكون الجواب، جميع هذه العناصر معًا. لكن في الواقع، يصعب إعطاء إجابة شاملة تصحّ لكل أسفار العهد القديم. فالأولى أن تتمّ دراسة كل سفر من أسفار الفشيطتا على حدة للإجابة عن هذا السؤال بالنسبة إلى السفر المحدّد. والسؤال الآخر الذي يتبع: إن كان هناك من تأثير للسبعينية، فأية نسخة للسبعينية هي التي أثّرت على الفشيطتا؟ بالنسبة إلى سفر الملوك، تبيّن أنّ السبعينية المستخدمة هي نسخة لوسيان المنتشرة في أنطاكية.

5- علاقة الفشيطتا بالترجوم

على عكس رأي باحثين مثل بومشترك وكاهل وفوبوس، لا يمكن اعتبار الفشيطتا نوعًا من الترجوم. لا شكّ أنّ هناك ترابطًا بين الاثنين؛ على سبيل المثال في خر 4/ 16، يقول النص العبري: “هو يكلّم الشعب عنك. وهو يكون لك فمًا” أما الفشيطتا وترجوم أونقِلوس (Onkelos): “… وهو يكون لك مترجمًا ܡܬܪܓܡܢܐ”. لكن الرأي السائد اليوم هو أنّ الفشيطتا لم تستخدم الترجوم بل التفاسير اليهودية التقليدية الشفهية التي كانت منتشرة في العالم القديم، وهي مشتركة مع الترجوم. ذلك أنّ الهدف من الترجمة الدقيقة الأمينة للنص العبري في الفشيطتا هو أن يحلّ محلّ الأصل، بينما الترجمة التفسيرية للترجوم لا يمكن أن تفعل ذلك. لهذا السبب بعض المخطوطات تضع الترجوم بإزاء النص العبري[4].

6- طباعة الفشيطتا حديثًا

سنة 1959، تأسس معهد الفشيطتا في جامعة ليدن – هولندا، ومنذ ذلك الحين بدأ المعهد بنشر طبعة نقدية للفشيطتا مستندة إلى جميع المخطوطات المعروفة إلى القرن الثاني عشر، ويُعتَبَر النصّ الأساس لهذه الطبعة هو مخطوط ميلانو (7a1). بدأت طباعة بعض الأسفار النموذجية سنة 1966، ثمّ بدءًا من سنة 1972، انطلقت السلسلة التي سوف تتألّف من 17 جزءًا ما عدا المقدّمات والدراسات حول تقنيات الترجمة وغير ذلك. إلى الآن، صدر من السلسلة 13 جزءًا وما زالت 4 أجزاء تنتظر أن تُنشر وهي III/2 (أرميا، المراثي، رسالة أرميا، رسالة باروخ، باروخ)؛ IV/1 (راعوث، سوسنّة، أستير، يهوديت، سيراخ)؛ IV/4 (عزرا-نحميا، مك 1-2)؛ IV/5 (مك 3-4)[5].

7- قانون العهد القديم أو الأسفار التي تحتويها ترجمة الفشيطتا

على الرغم من أنّ الفشيطتا السريانية مترجمة عن العبرية، كما سبق ورأينا، إلاّ أنّه لا يوجد أي مخطوط لها يطابق تطابقًا تامًا التقليد اليهودي في عدد الأسفار وترتيبها. فالفشيطتا تحوي نصوصًا من خارج القانون الرابّيني اليهودي، أعني نصوصًا مترجمة من السبعينية أو من نصّ يوناني آخر.

فضلاً عن الأسفار المعروفة في الطبعات الحديثة بالقانونية الثانية (وهي يهوديت، طوبيا، حكمة سليمان، حكمة ابن سيراخ، باروخ، 1-2 مك، والإضافات إلى دانيال: قصّة سوسنّة وقصّة بال والتنّين)، تضمّ الفشيطتا نقلاً عن السبعينية إضافات إلى سفر أستير، وإضافات إلى إرميا (رسالة إرميا وباروخ)، سفرَي المكابيين 3-4، عزرا الأول (المسمّى أيضًا عزرا الثالث، في الفولغاتا على سبيل المثال). كما تُرجِم من اليونانية المكابيين الخامس (= فلافيوس يوسيفوس، الحرب اليهودية 6)، رؤيا باروخ وعزرا الرابع (المعروف أيضًا برؤيا عزرا ونصّه الأصلي بالعبرية أو الآرامية). أخيرًا تشتمل الفشيطتا على مزامير منحولة كالمزمور 151، أناشيد، صلاة منسّى ومزامير سليمان.

في التقليد السرياني، ما يحدّد القانون هو المخطوطات الّتي تنقل الكتاب المقدس، القوائم القانونية والاقتباسات لدى الآباء السريان، فضلاً عن الاستخدام الليترجي للسفر والذي نستشفّه من مخطوطات القراءات. ولعلّ هذا العنصر الأخير هو الأهم لدى السريان، كما هي الحال لدى اليونان.

ولكي نعرف أهمية الأسفار وموقعها في القانون يجب أن نرى ورودها أو عدمه في المخطوطات، وفي أي مكانٍ وترتيب. والتحليل يُظهر أنّه هناك بعض التردّد في شأن بعض الأسفار المحدّدة. بالنسبة إلى الأسفار القانونية، نجد أن التقليد السرياني لا يُولي أهميّة لسفرَي أخبار الأيام الأول والثاني ولسفرَي عزرا ونحميا اللّذين تصنّفهما المخطوطات في النهاية مع الأسفار المنحولة رؤيا باروخ وعزرا الرابع[6]. وكذلك الأمر بالنسبة إلى سفر أستير. ثمّ هناك تردّد حول أسفار الجامعة، نشيد الأنشاد، راعوث وأيوب. بالنسبة إلى الأسفار القانونية الثانية، هناك تردّد في ما يخصّ يهوديت، طوبيا، والإضافات إلى سفر أستير، المكابيين، الحكمة، ملحقات إرميا (باروخ ورسالة إرميا)، وملحقات دانيال (سوسنّة، وبدرجة أقلّ بال والتنّين)[7].

 

 

ثانيًا: فشيطتا العهد الجديد[8]

1- المخطوطات

تناقلت جميع الكنائس السريانية نص الفشيطتا، مما ساعد في نموّ عدد المخطوطات التي تحتويها إلى أكثر من 500 مخطوط. واللافت في الأمر أنّ المخطوطات، على كثرتها ورغم توزّعها في الزمن على مدى 15 قرنًا، ظلّت متطابقة فيما بينها بشكل شبه تامّ. وهذا ما يمنح هذه الترجمة مصداقيتها وشرعيتها في الكنائس السريانية عامّةً.

أقدم هذه المخطوطات يعود للقرنين الخامس والسادس.

القسم الأعظم من المخطوطات وصلنا من دير السريان (وادي النطرون)، دير القدّيسة كاترين (سيناء)، بطريركية السريان (ماردين، ثمّ حمص ودمشق والشرفة).

يحتفظ المتحف البريطاني (المكتبة البريطانية اليوم)، بنحو 100 مخطوطة للفشيطتا، جميعها جُلِبَ من دير السريان في مصر، و60 منها ترقى إلى ما قبل القرن العاشر فيما ثلاثون تعود إلى ما بين القرنين الخامس والسابع.

2- تاريخ ومكان الترجمة وهويّة المترجمين

يحدّد الباحثون في تاريخ الفشيطتا زمان ترجمتها ما بين العامين 375 و430، وعلى الأغلب في عهد رابّولا أسقف الرها (412-435) الذي جاء في سيرته: “إنّه بحكمة الله التي كانت فيه ترجم العهد الجديد من اللغة اليونانية إلى السريانية بسبب ما كان فيها من اختلافات”. ولم يقنع رابولا بنشر تنقيحه بل أطلق أوامره للكهنة والشمامسة ليتأكّدوا من “التزام كلّ الكنائس بالاحتفاظ بنسخة من الأناجيل المنفصلة، وأن تقرأ منها أيضاً”.

بالنظر إلى هذه المعطيات، تُرجَّح الرّها كمركز للترجمة.

لكن الفشيطتا لم تكن ترجمةً حديثةً كلّيًا، بل كانت تدقيقًا وتنقيحًا للترجمات السريانية السابقة (المسمّاة الأناجيل المنفصلة لتمييزها عن دياطسرون ططيانوس)، لجعلها أقرب إلى النصّ اليوناني. وفيما تثبّت نصّ الفشيطتا في القرن الخامس، استمرت في التقليد السرياني الغربي، في القرنين التاليَين، نزعة مراجعة الترجمات القديمة لتدقيقها على اليونانية، وذلك لأسباب عقيدية ولغوية.

لكن مع دخول الإسلام إلى الشرق، فُقِدتْ ديناميكية مراجعة ترجمة النصوص المقدّسة، وحلّت مكانها الدراسات اللغوية، ودخلت الحضارة السريانية مرحلة الحفاظ على ما وصلتْ إليه من ثقافة ونصوص مقدّسة.

يميل الباحثون اليوم إلى اعتبار نص الفشيطتا المتداول في الكنيسة السريانية الغربية، النصّ الأصلي أو أقلّه الأقدم، على الرغم من تعرّضه للتنقيح بسبب انفتاح الأساقفة والعلماء المغاربة على الثقافة اليونانية.

3- النص المطبوع

وصلت الفشيطتا إلى الغرب لأوّل مرة على يد “موسى المارديني” (Moses of Mardin) الكاهن السرياني الشهير، الذي ذهب يبحث عمّن يقوم بطبعها في روما وفينسيا دون جدوى. وأخيراً في 1555 وجد ضالّته المنشودة في البرت ويدمانشتادت (Albert Widmanstadt) المستشار الإمبراطوري في فيينا، فطبع العهد الجديد وتحمّل تكاليف صب الحروف السريانية اللازمة لطبعها.

ثم جاء “ايمانويل تريميليوس” (Immanuel Tremellius) اليهودي المتجدد واستخدم طبعة فيينّا في إصدار العهد الجديد بالسريانية بحروف عبرية في عام 1569.

وفي 1645 أعدّ “جبرائيل صهيوني” (Gabriel Sionita) النسخة الأساسية للعهد الجديد للطبعة الباريسية المتعددة اللغات.

وفي 1657 ظهرت الفشيطتا كاملة في طبعة والتون اللندنية المتعددة اللغات.

ولمدة طويلة ظلت أحسن طبعة للفشيطتا هي التي أعدها “جون ليسدن” (John Leusden) و”كارل اسكاف”  (Karl Schaaf).

أمّا الطبعة النقديّة الأولى للأناجيل التي أصدرها “جويليم” (Gwilliam) مع Pusey في أوكسفورد – لندن سنة 1901، فقد استندا فيها على أكثر من 42 مخطوطة، تعود إلى الفترة الواقعة بين القرن الخامس والثاني عشر.

سنة 1920، أصدر اتّحاد جمعيات الكتاب المقدّس، نسخة كاملة للعهد الجديد مبنيّة على طبعات “جويليم” (1- طبعة الأناجيل مع Pusey، 2- طبعته لأعمال الرسل؛ 3- طبعته لرسائل بولس مع Pinkerton) وطبعتَيْ جون جوين (John Gwynn) للرسائل الجامعة والرؤيا؛ تستند إلى أكثر من 70 مخطوطة وهي المتداولة حتّى اليوم في جميع الطبعات الحديثة.

 

4- الأسفار القانونية المحذوفة من الفشيطتا

على الرغم من أنّ النصّ الذي طبعه اتحاد جمعيات الكتاب المقدس يحوي جميع أسفار العهد الجديد ال27، فإنّ الفشيطتا الأصلية، في القرن الخامس، لم تكن تحتوي على الأسفار الخمسة التالية: 2بط، 2 و3 يو، يهوذا ورؤيا يوحنا. وقد يكون السبب هو الشكّ في هوية كاتبها أو تشابه بعضها مع الأدب الرؤيوي المنحول (2بط 2/4؛ ولا سيّما رسالة يهوذا والرؤيا).

5- نماذج من بعض القراءات التي تسترعي الانتباه[9]

في الفشيطتا بعض القراءات التي تلفت الانتباه. منها ما هو نادر، لكن يرد في شواهد أخرى. على سبيل المثال:

مت 11:2 “أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل بواسطة تلاميذه وقال له”  بدلاً اثنين من تلاميذه…

مت 1:25 “عشر عذارى أخذن مصابيحهنّ وخرجن للقاء العريس والعروس”، بدلاً من للقاء العريس فقط.

مت 27: 9 “حينئذ تمّ ما قيل بالنبي القائل وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل … ” بدلاً من ما قيل بإرميا النبي، حيث أنّ النبوّة المذكورة مجموعة من زكريا وإرميا.

بعض القراءات خاصّة بالفشيطتا دون سواها:

مت 18:13: “فاسمعوا أنتم مثل الزرع” بدلاً من مثل الزارع.

مت 36:13 “فسّر لنا مثل الزؤان والحقل” بدلاً من مثل زؤان الحقل.

بعض القراءات تقرّبنا من الأصل الآرامي الذي نطق به يسوع. منها:

مت 12:6 “ܘܫܒܘܩ ܠܢ ܚܘ̈ܒܝܢ ܐܝܟܢܐ ܕܐܦ ܚܢܢ ܫܒܩܢ ܠܚܝ̈ܒܝܢ” في النص اليوناني، اترك لنا ديوننا كما نحن نترك للمديونين إلينا. وفي نص لو 4:11 الموازي، نجد “خطايانا”. الكلمة المستخدمة في السريانية “ܚܘ̈ܒܝܢ” تعني في الوقت عينه الديون والخطايا، ولذلك هي أقرب إلى كلمات يسوع نفسها.

مت 30:10 “ܕܝܠܟܘܢ ܕܝܢ ܐܦ ܡܶܢ̈ܶܐ ܕܪܝܫܟܘܢ ܟܠܗܝܢ ܡܰܢ̈ܝܳܢ ܐܢܝܢ”. وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة. في السريانية، هناك لعب على الألفاظ بين كلمة “شعور” و”محصاة”.

ثالثًا: الترجمات الحديثة إلى الإنكليزية والعربية

باللغة الإنكليزية، لدينا ترجمتان من القرن التاسع عشر للعهد الجديد: John Wesley Etheridge (1843) وجايمس موردوك James Murdock (1852)، وترجمة لسائر الكتاب المقدس أجراها جورج لمسا George Lamsa سنة 1957. في سنة 2012، أطلقت دار جورجياس برس في نيوجرسي، مشروع طباعة نص الفشيطتا بعهديه القديم والجديد، بالسريانية والإنكليزية، بمعدّل 4 إلى 5 كتب سنويًّا. تضمّ السلسلة حوالي 32 مجلّدًا، صدر معظمها وبقي القليل فقط. النصّ السرياني المعتمد هو نصّ طبعة قليميس يوسف داود المعروفة بطبعة الدومينكان (1888-1892)، مع الإشارة في مقدّمات الأسفار إلى الفوارق الهامّة التي تفصلها عن طبعة لايدن. أمّا مبدأ العامّ للترجمة الإنكليزية فهو أن تكون في آنٍ واحد أمينةً قدر الإمكان للأصل السرياني ومكتوبةً بلغة إنكليزية عصرية وواضحة.

باللغة العربية، قام الموارنة منذ القرن السابع عشر، بإصدار ترجمات عربيّة للعهد الجديد والقراءات الكنسية، مُقارَنةً على الفشيطتا: من جرمانوس فرحات (طُبعت ترجمته سنة 1865) إلى يوسف الدبس (1888) ويوسف دريان، إلى الترجمة الليتورجية التي أنجزتها اللجنة الكتابيّة التابعة للّجنة البطريركية المارونية للشؤون الطقسية، تحت اسم “الفشيطتو العربية” (2003).

أخيرًا، بدءًا من سنة 2010، قام مركز الدراسات والأبحاث المشرقية (CERO) بطباعة نص الفشيطتا بعهديه مع ترجمة بين السطور، وفي حقل جانبيّ، ترجمة عربيّة لا تتوخّى الأمانة للأصل السرياني بقدر ما تتوخّى مخاطبة محبّي الفصاحة من قرّاء لغة الضادّ.

الخاتمة

في النهاية، نودّ أن نشير إلى بعدٍ رعوي يخصّ تعصّب بعض الباحثين في العهد الجديد لنظرية أولويّة نص الفشيطتا على النص اليوناني. وهذه النظرية تلقى رواجًا في الأوساط الشعبوية وعلى الإنترنت. وبغضّ النظر عن قيمة هذا الادّعاء ومنطلقاته، فهو يدغدغ مشاعر بعض السريان المتعصّبين للغتهم. ما ينبغي التنبّه له هو أنّ الكتاب المقدّس هو أوّلاً كلام الله والترجمات هي مجرّد وسيلة لنقل رسالته. فالرب يسوع المسيح، حين تكلّم بالآرامية بل وصلّى الأبانا بهذه اللغة، تخلّى عن العبرية وهي لغة العهد القديم كلّه وقصد أن يتكلّم باللغة التي يفهمها الشعب. ولم يتمسّك بلغةٍ بحدّ ذاتها أو يقدّسها. إنّ تقديس لغةٍ معيّنة هو شأن أهل المصحف الكريم، وليس المسيحيّين. فعلى السريان ألاّ ينسوا أثر الفشيطتا الكبير في نقل رسالة الإنجيل إلى الشعوب الأخرى. فالترجمات الأرمنية والجورجانية والعربية والفارسية والمليالم تدين بالكثير للفشيطتا. كما أن اللوح الشهير، الذي اكتشف في سنج ـ أن ـ فو، لشاهد على وصول الكتب المقدسة باللغة السريانية إلى قلب الصين منذ القرن السابع. فاهتمام الآباء السريان كان نقل رسالة الكتاب المقدّس لكلّ شعبٍ بلغته كي يؤمنوا بالمسيح. في المقابل، إذا نظرنا إلى شمال أفريقيا، نرى أنّ الآباء اللاتين هناك لم ينقلوا الكتاب المقدّس إلى اللغات المحلّية بل ترجموه فقط إلى اللاتينية، لغة الإمبراطورية. فلم تتغلغل المسيحيّة وتتأصل في تلك البلاد. وحين وصل الإسلام، اندثر أثرها سريعًا. فلننتبه لئلاّ، وهو نحيي لغةً، نُميت من مات لأجله المسيح.

[1] راجع مثلاً: L’Ancien Testament en syriaque, éd. F. Briquel Chatonnet – Ph. Le Moigne, coll. Études syriaques 5, Paris 2008 ; Le Nouveau Testament en syriaque, coll. Études syriaques 14, Paris 2017 (sous presse) ;  هار روميني، “الترجمات السريانية للعهد القديم”، في جذورنا، مقدمات عامّة، سلسلة ينابيع سريانية، مركز الدراسات والأبحاث المشرقية، لبنان 2005، ص 77-102؛ أندرياس جوكل، “الفشيطتو أو الإرث المشترك للكنائس السريانية”، في جذورنا، مقدمات عامّة، المرجع نفسه، ص 103-113.

[2] Cf. G. Dorival, « Bibles syriaques, Bibles hébraïques et Bibles grecques », dans L’Ancien Testament en syriaque, op. cit. (n. 1), p. 9-20 ; W. Van Peursen, « La diffusion des manuscrits bibliques conservés : typologie, organisation, nombre et époque de copie », dans L’Ancien Testament en syriaque, op. cit. (n. 1), p. 193-214.

[3] في مقدّمته لسفري أخبار الأيام (الفولغاتا)، يبيّن هيرونيموس وجود ثلاث نسخ للسبعينية: نسخة أوريجانوس في فلسطين؛ نسخة هيسيخوس في الإسكندرية؛ نسخة لوسيان (312†) في آسيا الصغرى أي في النطاق الأنطاكي (لمناقشة هذا الرأي، انظرS. Kreuzer, “Old Greek, kaige and the trifaria varietas – a new perspective on Jerome’s statement”, Journal of Septuagint and Cognate Studies 46, 2013, p. 74-85). والنسخة السداسية السريانية هي أفضل شاهد على سبعينية أوريجانوس، لأنّ النسخة اليونانية للسبعينية المحفوظة في المخطوطة الفاتيكانية وسواها، تمزج بين السبعينية السابقة لأوريجانوس ونسخة أوريجانوس.

[4] J. Joosten, « La Peshitta de l’Ancien Testament et les targums », dans L’Ancien Testament en syriaque, op. cit. (n. 1), p. 91-100.

[5] W. Van Peursen, « Introduction to the Electronic Peshitta Text » (http://media.leidenuniv.nl/legacy/Introduction to the Electronic Peshitta Text.pdf, consulté le 22/5/2017)

[6] هذا واضح بشكل خاص في التقليد السرياني الغربي، حيث لا يذكر لا يعقوب الرهاوي ولا ابن العبري ولا الليتورجيا هذه الأسفار.

[7]  J.-C. Haelewyck, « Le canon de l’Ancien Testament dans la tradition syriaque (manuscrits bibliques, listes canoniques, auteurs) », dans L’Ancien Testament en syriaque, op. cit. (n. 1), p. 141-171.

[8] بالإضافة إلى المراجع المذكورة في الحاشية الأولى، راجع “الترجمات السريانية”، في دائرة المعارف الكتابية، ج. 3، نشره وليم وهبه بباوي، مصر 1990، ص 352-354.

[9] The Syriac Peshiṭta Bible with English Translation, Matthew, Eng. tr. J. Childers, text G. Kiraz, New Jersey 2012, p. XXIII-XXX.

RECENT POSTS

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في العهد الجديد الخوري الدكتور باسم الراعي* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023) مقدّمة القسّ د. عيسى دياب هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها...

×