الله والمَلِك والمملكة- الله ومهمّة الحكم في العهد القديم
سيادة المطران جوزيف نفّاع
المطران د. جوزف نفّاع*
(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 11/3/2022)
مقدّمة القس د. عيسى دياب
هذه الندوة هي الأولى لهذه السنة بين ثلاث ندوات، نتناول فيها موضوع “قراءة الكتاب المقدَّس في السياق”. لقد استوحينا العنوان العامّ لهذه السنة وعناوين المحاضرات مِن الواقع اللبناني بشكل مباشر، ومِن واقع المنطقة، والعالم، بشكل غير مباشر.
تأسّست الملكيّة، في إسرائيل القديمة، في نهاية الألف الثاني ق.م. وكانت قبائل إسرائيل، قبل ذلك، في الثيوقراطيّة، أي، “حكم الله”، حيث كان يحلّ “روح الربّ” على القاضي (حاكم مدنيّ، وقاضي، وقائد عسكريّ في الوقت نفسه)، ويمدّه بالقوّة والحكمة لممارسة السلطة وتنفيذ المهام المطلوبة مِنه. وكأنّ الله كان يحكم مباشرةً مِن خلال القاضي. أراد فريق مِن الشعب الانتقال إلى “الملكيّة”. وهذه تعني أنّ الملك يحكم (وليس الله)، وعليه أنْ يحقّق، في حكمه، إرادة الله. فريق آخَر مِن الشعب اعتَبر أنّ “الملكيّة” هي تَعدٍّ على حقّ الله في المُلك. عدد كبير مِن ملوك إسرائيل (ويهوذا) أخفقوا في تحقيق إرادة الله وحقّقوا مصالحهم الذاتيّة، ما سبّبَ للشعب المآسي.
كيف يمكن أنْ نقرأ هذا الواقع البيبليّ على الوضع اللبنانيّ؟ هذا ما سيفعله المحاضر. ثمّة عدد من الأسئلة تَطرح نفسها في هذا السياق: ما هي إرادة الله في الواقع اللبنانيّ، ماذا يريد الربّ من لبنان ومن اللبنانيّين، وعلى الحاكم أنْ يسعى لتحقيقها؟ طبعًا بالإضافة إلى إرادته الصالحة لكلّ الخليقة بشكل عامّ؛ وهل نجَح حكّام لبنان في هذه المهمّة؟ وإنْ أخفقوا؟ ما هي أسباب إخفاقهم؟ هل يوجد في لبنان أزمة حكم، على خلفيّة المفهوم البيبليّ للحكم؟
هذه الأسئلة وغيرها يتناولها المحاضر، بخبرته الواسعة ومهنيّته العالية، ليضع لنا أساسًا متينًا لفهم موضوع “ممارسة الحكم” في العهد القديم، وليرشدنا إلى منهج قراءة الكتاب المقدَّس يساعدنا على فهم الموضوع من الناحية البيبليّة، واللاهوتيّة، والروحيّة، والأخلاقيّة.
الله والملك والمملكة – المطران د. جوزف نفّاع
صورة المَلك في العهد القديم وفي حياتنا – المعنى اللاهوتيّ لإشكاليّة المَلك
مقدّمة
موضوع “المَلك” هو إشكاليّة مهمّة بالنسبة لنا. فالكتاب المقدَّس هو كتاب خلاص أي هو تاريخ. ومِن خلال الأحداث التاريخيّة التي حدثَت مع مَن سبقونا نحن نقدر أنْ نقرأ حياتنا اليوم ونقرأ إرادة الربّ علينا ونعرف ما هو السبيل للقاء وجه الله في الخلاص.
شعب الله المختار
بدأ الكتاب المقدَّس مع إشكاليّة العبوديّة في مصر. وكلّ ما سبق كان تحضيرًا له. حتّى اليوم نحن نسمّي الديانة اليهوديّة الديانة “الموسويّة”، واليهود يسمّون موسى تحديدًا “النبيّ” مع “الـ” التعريف ولا يعتبرونه “أحد الأنبياء”.
هنا تبدأ القصّة وتبدأ قصّتنا. فكلّ العهد القديم يرتكز على تحرير الله لنا مِن عبوديّة مصر وقيادتنا إلى أرض الميعاد. هكذا تدخَّل الله في تاريخنا. لكنّ شعب إسرائيل سيضيع في الصحراء مدّة 40 سنة. ونحن نعرف كم هو صعب أنْ نعيش في الصحراء. لكن، ما الذي جَعَل الشعب يتحمّل العيش في الصحراء مدّة 40 سنة؟ أمر واحد: أنّ الله وعد موسى بأرض تدرّ لبنًا وعسلًا. فكان الشعب مستعدًّا أنْ ينتظر تحقيق هذا الوعد.
وبعد 40 سنة وصلوا إلى أرض الميعاد مع يشوع بن نون وربحوا المعارك وسكنوا تلك الأرض التي تدرّ لبنًا وعسلًا. فاعتقدوا أنّهم وصلوا إلى مبتغاهم. لكن في الحقيقة، منذ اليوم الذي وطأ إسرائيل فيه أرض الميعاد لم ينعموا بيوم من الراحة لا بل بدأت الخلافات إذ راحوا يتنازعون على السلطة. فلمّا كانوا في الصحراء لم يكن لديهم ما يتنازعون عليه، أمّا الآن فهم يتنافسون على الأرض والسلطة.
جرّاء هذه الفوضى وهذا التنازع بدأ حكماء إسرائيل يحاولون إيجاد حلّ. والمشكلة أنّ أوّل صدمة عاشها شعب إسرائيل كانت غنى صيدا وصور، المدينتَين المجاورتَين لهم حيث كان الذهب والفضّة لا يُحصى ولا يُعدّ، في وقت كان إسرائيل يَعتبر نفسه الشعب المختار! فكيف يمكن أنْ تكون صيدا وصور أفضل منهم؟ فإذا كان الله هو منبع الخيرات فكيف يكون الوثنيّ أغنى منهم؟ أمامهم تحليلان: إمّا أنّ الله يعطي سكّان صيدا وصور أكثر لأنّهم شعبه المختار، وإمّا أنّ الله يعطي إسرائيل الخيرات وفي المقابل هناك إله صور وصيدا (البعل) يزوّدهم بخيرات أكثر. فهل هناك إله غير إله إسرائيل؟ وهكذا بدأ الالحاد يدخل منذ تلك الأيّام، ولذلك سيقول الله: “ترَكوني أنا ينبوعُ المياهِ الحيَّةِ وحفروا لهُم آبارًا مُشَقَّقةً”[1] (إرميا 2: 13). والسبب كان المال والمقارنة بين مالهم ومال صيدا وصور. لقد كان الشعب غير راضٍ عن وضعه المادّيّ متّهمًا الله بأنّه لا يرزقهم كفاية.
ملوك إسرائيل
ولمّا صُوّبَت أصابع الاتّهام على الله، نَسَب حكماء إسرائيل سبب المشكلة إلى عدم نظام البلد بالمقارنة مع صيدا وصور اللتان كانتا محكومتان من مَلك. وبالتالي أبعدوا التهمة عن الله ووضعوها في النظام. فأتوا إلى صموئيل وطلبوا منه أنْ ينصّب لهم مَلكًا. فقال الله لصموئيل: قل لهم إنّهم لا يريدون مَلكًا إنما هُم لم يعودوا يريدوني أنا إلهًا لهم، ولم يعودوا يثقون بي. لأنّ هَمّهم كان المال. وبالفعل، اختاروا مَلكًا حسب أهوائهم. فكان المَلك الأوّل هو شاول. اختاروا أفضل شخص: الأطول والأجمل والأقوى والأذكى! وسلّموه الحكم. فهل نجح شاول في مهمّته؟ في البداية نجح بسبب ذكائه وقوّته إذ كان يقوم كلّ يوم بمشروع جديد لإسرائيل، وبدأ البلد يتطوّر، والشعب يصفّق للمَلك. وكأنّهم يُظهرون لله أنّ المَلك أفضل منه، ويخبرونه ويعلّمونه كيف يجب أنْ يتصرّف معهم.
ليتنا نقوم بفحص ضمير لذواتنا: كم مرّة حاولنا نحن أيضًا أنْ نعلّم الله ماذا عليه أنْ يعمل وماذا عليه أنْ يرزقنا وأنْ نحاسبه لماذا لا يتدخّل في حياتنا…
كان شعب إسرائيل سعيدًا بالمَلك، إلى أنْ أصبحت مشاريع شاول أكبر منه ومِن إسرائيل وبدأ يفشل، فانهارت إسرائيل وانهارت معها الأحلام. وعندها قال الله، الذي لا حدود لحبّه وحنانه، لصموئيل: لن أتخلّى عنكم، أنا سأختار لكم مَلكًا. فراح صموئيل يبحث عن مَلك مِن مدينة إلى مدينة ويسأل الله عنه. إلى أنْ وصل إلى أصغر مدينة هي بيت لحم، إلى بيت شخص اسمه يسّى ولديه أولاد. وما إنْ دخل صموئيل بيت يسّى حتّى ذبح له يسّى العجل ليكرّمه وقام بتقديم أولاده له علّ واحد منهم يصلح أنْ يكون المَلك. فسأل صموئيل يسّى: هل لديك ولد آخَر بعد؟ قال يسّى: نعم هناك ولد صغير هو داود موجود الآن في الحقل. فاختار الله داود، هذا الانسان المتواضع والبسيط مَلكًا على إسرائيل. وفي الواقع، فترة مُلك داود كانت الفترة الوحيدة التي عاشت فيها إسرائيل بسلام. وبعد داود ورَث سليمان الحكم عن أبيه. واعتَبر نفسه أعظم الملوك. فعدنا إلى صورة شاول. ولمّا مات سليمان تنازع أولاده على السلطة. وفي 330 ق.م. انقسمَت المملكة وخسرَت إسرائيل كلّ شيء.
محور الحديث
انطلاقًا من هذه الصورة التاريخيّة نصل إلى مقارنة قويّة هي محور كلامنا: مشكلة إسرائيل أنّه قاس الله بخيراته، ونحن أحيانًا نحاسب الله بالطريقة نفسها، وهنا تكمن المشكلة. عندما كان إسرائيل في الصحراء من دون ممتلكات كان في سلام. أمّا عندما بدأ يمتلك، ففَقَد السلام. يجيبنا الله حين نسأله أين أنت ولماذا لا ترزقنا خيرات، يقول: أنا لا أتدخّل في سياستكم، أنا لست مجلسًا نيابيًّا! الله في الكنيسة الأولى لم يكن يكره المسيحيّين الذين استشهدوا، إنما حسابات الله تختلف عن حسابات البشر وحسابات البشر تخطئ دائمًا.
حوار بين أيّوب والمَلك سليمان
نختم بمشهد أخير هو حوار بين أيّوب والملك سليمان.
أيّوب هو أكثر شخص متألّم وسليمان هو أعظم مَلك. يلوم أيّوب الله ويقول له: أين أنت؟ فبعد أنْ كان لدى أيّوب سبعة أولاد وعدّة منازل وكمّ كبير مِن الخيرات، خسر كلّ شيء دفعة واحدة. فقال: “عُريانًا خرَجتُ مِنْ بَطنِ أُمِّي وعُريانًا أعودُ إلى هُناكَ” (أيّوب 1: 21). أمّا سِفر الجامعة فيعرض قول سليمان، وعنوانه: “باطِلُ الأباطيلِ، كُلُّ شيءٍ باطلٌ” (الجامعة 2:1). شرّاح الكتاب المقدَّس يقدّرون وجود حوار ما بين أيّوب وسليمان. أيّوب خسر كلّ شيء وحتّى صحّته، وفي المقابل يحاوره سليمان قائلًا: لماذا أنت حزين؟ ألأنك فقدتَ كلّ شيء؟ أنا ليس لديّ زوجة واحدة بل نساء عديدة حولي. أنا أغنى مَلك في الكون. وأنا أقوى شخص ولديّ أكبر سلطة. ومع ذلك، لست سعيدًا! فأين تكمن السعادة يا ترى؟
هذا السؤال علينا طرحه على أنفسنا اليوم. منذ سنتَين وقَبل الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة كنّا نتذمّر على الوضع السيّء في البلد، واليوم، بعد أنْ أصبحنا في قلب أزمة حقيقيّة ما زلنا نتذمّر. أمّا الله فلم يعِدنا بالخيرات المادّيّة، بل وعَدنا بملكوت السماوات. إنْ نسينا هذه الحقيقة كمسيحيّين ستكون حياتنا وسياساتنا بلا قيمة. إنْ نسينا أنّنا رسل للحياة الأبديّة سنفشل في حياتنا العمليّة. عندما سنبحث عن ملكوت السماوات في الكتاب المقدَّس ستأخذ كلّ باقي الأمور موقعها المناسب. شهداء الكنيسة الأولى رغم أنّهم تعرّضوا لحرق أجسادهم جرّاء الاضطهاد، لكنْ، لأنّ الله لم يتخلّ عنهم، سخروا مِن مضطهِديهم وعرفوا أنّ السعادة ليست على هذه الأرض. ونحن، كلّ مرّة نبحث عن سعادة أرضيّة خسيسة سنخسر كلّ شيء. علينا أنْ نتذكّر كلمة الله: “لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدُمَ سَيِّدَينِ […] فأنتُم لا تَقدِرونَ أنْ تخدُموا اللهَ والمالَ” (متّى 6: 24). الله لا يثمَّن. هو قال لنا: “مَنْ أرادَ أنْ يَتبعَني، فلْيُنكِرْ نَفسَهُ ويَحمِلْ صَليبَهُ ويتبَعْني” (متّى 16: 24)، وقال أيضًا: “تَعالَوا إليَّ يا جميعَ المُتعَبـينَ والرَّازحينَ تَحتَ أثقالِكُم وأنا أُريحُكُم” (متّى 11: 28). الله هو سرّ. هو لا يتركنا بل يرى جهادنا وهو يكتب أسماءنا في الملكوت، وإنْ كان علينا أنْ نختار بين السماء والأرض، فلنختار السماء!
- سيادة المطران الدكتور جوزيف نفاع، هو راعي نيابة الجبة البطريركية المارونية، ونيابة زغرتا البطريركية المارونية؛ وهو أيضًا استاذ الكتاب المقدس في عدد من الجامعات. يحمل سيادة المطران نفاع شهادة الدكتوراه في علوم الكتاب المقدس من الجامعة الحبرية الغريغورية في إيطاليا، وله العديد من المؤلفات، والأبحاث في الدوريات المتخصصة، وعضو في الرابطة الكتابية.
[1] النصوص البيبلية الواردة في هذه المقالة هي بحسب الترجمة العربية المشتركة بشكل عام.
RECENT POSTS
فداء الخليقة في الكتاب المقدَّس
فداء الخليقة في الكتاب المقدَّس المونسنيور د. أنطوان مخايل RECENT POSTS
البيئة في الكتاب المقدَّس
البيئة في الكتاب المقدَّس الدكتور دانيال عيّوش RECENT POSTS
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ الخوري د. سامي نعمة RECENT POSTS