المواطنة في العهد الجديد
الخوري الدكتور باسم الراعي*
(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023)
مقدّمة القسّ د. عيسى دياب
هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها موضوع “الوطن والمواطنة في الكتاب المقدَّس”. إنّ الظروف التي نعيشها في لبنان هي التي أوحَت لنا بهذا الموضوع، لكنّنا نتناول الموضوع بصورة علميّة، كما جاء في الكتاب المقدَّس؛ إيمانًا منّا بأنّه موضوع مفيد للمؤمنين في كلّ بلد.
“المواطنة” هو التبعيّة الناتجة عن انتماء الإنسان إلى وطن؛ ولهذه التبعيّة وجه ملموس، ووجه غير ملموس. ففي وجهها الملموس، هناك البُعد القانونيّ/السياسيّ، والبُعد الاقتصاديّ/الاجتماعيّ. وفي معناها السياسيّ وبُعدها القانونيّ، تُشير المواطنة إلى الحقوق التي تكفلها الدولة لمَن يحمل جنسيّتها- مِثل الحرّيّة الفرديّة والمشاركة في الحياة الوطنيّة، والالتزامات التي تفرضها عليه- مِثل احترام القوانين؛ أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه. ومِن المنظور الاقتصاديّ الاجتماعيّ، تحتّم المواطنة إشباع الحاجات الأساسيّة لمواطنيها، بحيث يمكنهم العيش بكرامة، مقابل أنْ يشارك المواطنون في مصاريف الدولة مِن خلال دفعهم الضرائب المتوجّبة، زدْ على ذلك، عمل الدولة على التفاف المواطنين حول مصالح وغايات مشتركة، بما يؤسِّس للتعاون والتكامل والعمل الجماعيّ المشترك. أمّا الوجه غير الملموس هو شعور المواطن بالاعتزاز كونه ينتمي إلى هذا الوطن، وتقديره المعنويّ لهذا الرابط الذي يربطه بوطنه.
هذا على الصعيد الإنسانيّ، لكنْ، ماذا يُعلِّم الكتاب المقدَّس بشأن المواطنة ومكوّناتها وتبِعاتها؟ وهل للموضوع علاقة بالدِّين والتديّن والإلهيّات؟ في العهد القديم، كان الانتماء إلى شعب إسرائيل (المواطنة في إسرائيل القديمة) هو شرط مِن شروط العهد مع الله، إذ إنّ الله قطَع عهدًا لفرد دعاه وصيّره شعبًا (إبراهيم)، ومِن ثمّ قطَع هذا العهد مع الشعب (العهد السينائيّ)؛ والانتماء لـ “شعب الله” يفرض موجبات ويعطي امتيازات.
كيف يمكننا أنْ نطبّق تعليم الكتاب المقدَّس عن المواطنة (الانتماء إلى شعب وإلى وطن) في الحالة اللبنانيّة التاريخيّة والحاضرة؟ في لبنان، هناك منافسة بين الانتماء إلى الطائفة الدينيّة، أو المجموعة العرقيّة، أو الحزب السياسيّ، والانتماء إلى الوطن. هناك شعور عند كلّ لبنانيّ بأنّ الدولة مقصّرة على جميع الصعد، لذلك، فقد كانت الروح الوطنيّة خافتة مِن حيث الالتزام بالمتوجّبات نحو الدولة. وماذا عن اليوم، حيث إنّ الشعور العامّ عند المواطنين هو أنّ الدولة نهبَتنا، كيف يجب علينا أنْ نعبّر عن وطنيّتنا أو مواطنتنا؟ وهل للمؤمن دور يلعبه في شفاء الوطن مِن خلال المواطنة؟ وما هو هذا الدور؟
هذه الأسئلة وغيرها يتناولها المحاضر، ليستخرج لنا، مِن الكتاب المقدَّس، تعليم كلمة الله عن الوطن، مِن خلال قراءة علميّة وروحيّة للنصوص المقدَّسة.
المواطنة في العهد الجديد – الخوري د. باسم الراعي
المواطنة في العهد الجديد، موضوع يثير الاهتمام، إذا تناولناه من منظار الفلسفة السياسيّة في إطاره الزمنيّ، لاستجلاء المعنى اللاهوتيّ فيه.
ربّما يساعد هنا على سبيل التذكير الإشارة إلى الرسالة إلى ديوغنتس لما لها مِن أهمّيّة في اختصار الإشكاليّة التي سأحاول العمل عليها في هذه المداخلة؛ نقرأ في هذه الرسالة ما يأتي: “يخضع المسيحيّون للقوانين، باعتبارهم مواطنين صالحين، يعملون بنشاط واجتهاد وجدّيّة في خدمة بلادهم، يمتثّلون للشرائع والقوانين القائمة، إلّا أنّ نمط حياتهم يسمو كمالًا على الشرائع وعلى القوانين.. ولا يعملون إلّا الصلاح”.
لا يريد النصّ هنا في نظري خلق ثنائيّة بين التزام المسيحيّ وبين كينونته، لأنّ الرسالة تقول مِن ثمّ أنّه يقوم بما يتوجّب عليه كمواطن مراعاة للضمير على اعتبار أنّ “السلطة مِن الله وهي لخيرك” كما يقول بولس. لكن ما معنى قوله إنّ “نمط حياتهم يسمو كمالًا على الشرائع وعلى القوانين”. هنا الإشكاليّة في نظري لا في الامتثال للقوانين بل في أسس المواطنة. يعني أنّ المسيحيّ يمتثل امتثالًا كاملًا للقوانين لا لإنّها مفروضة، بل لأنّها في حكم الضمير، لكنْ، في الوقت عينه لا يسلّم بما يقف وراء هذه القوانين (أو بلغة معاصرة الأسس ما-قَبْل القانونيّة) في المدينة الأرضيّة بسبب “مِن كمالٍ” مفقود.
حتّى يتبيّن عمق هذه الإشكاليّة، نعود إلى العهد الجديد ذلك إنّ وعي هذه الإشكاليّة له أصله هناك. أشير هنا قَبْل البدأ بالمعالجة إلى أنّ مداخلتي لن تتعامل مع البُعد الإسكاتولوجيّ النهيويّ لهذه الإشكاليّة عندما يقول المسيح “مملكتي ليست مِن هذا العالَم” أو عندما يقول بولس “مدينتنا في السماء”، لأنّ هذا الموضوع ستتمّ معالجته كما فهمت في محاضرة أخرى، وأصلًا لا أجده هو السبب وحده الذي يقف وراء قول ديوغنتس.
حتّى نفهم عمق هذه الإشكاليّة في العهد الجديد، لا بدّ مِن أنْ نضعها في سياقها التاريخيّ أي في السياق السياسيّ يومها وهو المواطنة في الأمبراطوريّة الرومانيّة التي عاش المسيح في ظلّ حكمها والتي عمل المسيحيّون الأوائل وهم على أرضها وفق قوانين مجتمعها.
1. المواطنة في الإمبراطورية الرومانيّة
تتطوّر مفهوم المواطنة في رومة القديمة مع تطوّرها السياسيّ عبر ثلاث مراحل:
الأولى، مرحلة المملكة التي امتدّت مِن سنة 753 ق.م. حتّى 509 ق.م.، حيث كان المجتمع مقصوم عموديًّا.
الثانية، مرحلة الجمهوريّة التي امتدّت مِن سنة 509 ق.م. حتّى سنة 27 ق.م التي ولد معها مرحلة سياسيّة جديدة انعكست كما سنرى في مفهوم جديد للمجتمع والسلطة والحكم.
الثالثة، مرحلة الإمبراطورية التي امتدّت مِن سنة 27 ق.م. حتّى سنة 395 م.، حيث وُلدت مرحلة تُعتبر مزيج بين المرحلتَين.
حملت هذه المرحلة معها نضجًا في مفهوم الحقوق، وخصوصًا حقوق المواطن وحقوق الشعوب مع توسّع حكم الإمبراطورية.
قام الحقّ الرومانيّ كما يرد عند شيشرون على مبدأَي:
– تمايز الحقّ عن المعطى الدينيّ، أي لا أساس دينيّ له.
– وتقسيم المجتمع (dignitas) ثلاث طبقات: نخبة منحدرة مِن القبائل الرومانيّة مؤلّفة من حكّام وأرستقراطيّين والشعب، قام بينها صراع كبير عمل الدستور على حلّه عبر إطار مشاركة مدروسة. في هذا الإطار ولدت فكرة المواطنة.
بعد ذلك أُضيف عامل آخَر على هذا الحقّ هو قوانين الشعوب، حيث يكون الشعب الذي يبتّ عهدًا مِن رومة من منزلة أدنى في الوضع القانونيّ مِن الشعب الرومانيّ، فلا يولد أولاده في الجنسيّة الرومانيّة بل يستطيعون اقتنائها بشروط معيّنة. كما تعطيه القوانين أنْ يعيش وفق شرعه الخاصّ. وينظر إلى أفراد هذا الشعب حرًّا مِن طبيعة يحدّدها القانون له، فهو لا يحقّ الحلفان مَثلًا مِثل المواطن الرومانيّ، ولا يحقّ له أنْ يشارك في الحياة السياسيّة. يعود أصل هذه القوانين إلى منطلَق تجاريّ أو ضريبيّ، بدأ بتنظيم حركة التجّار الغرباء ودفع ما يتوجّب عليهم، وتوسَّع بعد ذلك إلى دفع الجزية.
أمّا المواطن الرومانيّ بمواطنة كاملة، فيحدّد له القانون حقوقه وواجباته هي كالآتي (مع العلم كما قلنا أنّ هناك ثلاث طبقات مواطنين بحسب شيشرون):
الحقوق | الواجبات |
حقّ الاقتراع | الاكتتاب (بحسب العشيرة) |
حقّ التملّك | واجب الخدمة في الجيش |
حقّ الانخراط في الجيش | دفع الضريبة |
حقّ الترشّح | المشاركة في الطقوس العامّة |
حقّ الزواج مِن رومانيّة | |
حقّ التجارة | |
حقّ التقاضي (ورفع الشكوى أمام قيصر) |
2. المواطنة في العهد الجديد كما عاشها يسوع والرسل
طبق قسم مِن حقوق على غير الرومان مِثل واجب الاكتتاب بحسب العشرية للإنتظام في الدولة ولتنظيم جباية الضريبة.
عاش المسيحيّون الأوائل تحت شكلَي القوانين هذه: في الإطار اليهوديّ، وخارجه على اختلاف أوضاعهم وتواجدهم الجغرافيّ. وامتثلوا للقوانين الرومانيّة إنْ قوانين الشعوب أو قوانين المواطنين الرومان على اختلاف طبقات الشعب كما نعرف مِن العهد الجديد ومِن تاريخ الكنيسة الأولى.
التزم المسيحيّون شروط المواطنة، على مستويَين مِن منطلق احترام السلطة على الصيعدَين النظريّ والعمليّ. أورد بعض الأمثلة على ذلك:
– على المستوى النظريّ:
- موقف يسوع: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”[1] (متّى 22/17-21) اعتراف بسلطة قيصر (كان الحديث عن الضريبة).
- موقف بولس: “ليخضع كلّ امرئ للسلطات التي بأيديها الأمر، فلا سلطة إلّا مِن عند الله، والسلطات القائمة هو الذي أقامها. فمَن عارض السلطة قاوم النظام الذي أراده الله، والمقاومون يجلبون الحكم على أنفسهم” (رومة 13/1-2).
- موقف بطرس: “اخضعوا لكلّ نظام بشريّ مِن أجل الربّ: للملك على أنّه السلطان الأكبر […] أكرموا جميع الناس، أحبّوا إخوتكم، اتّقوا الله، أكرموا الملك” (1بطرس 2/13 و17)
– على مستوى العمليّ بالامتثال للقوانين:
- الاكتتاب: “في تلك الأيّام، صدر أمر عن القيصر أوغسطس بإحصاء جميع أهل الـمعمور. وجرى هذا الإحصاء الأوّل إذ كان قيرينيوس حاكم سورية. فذهب جميع الناس ليكتتب كلّ واحد في مدينته. وصعد يوسف أيضًا مِن الجليل مِن مدينة الناصرة إلى اليهوديّة إلى مدينة داود التي يقال لها بيت لحم، فقد كان مِن بيت داود وعشيرته” (لوقا 2/1-4).
- الضريبة والجزية (مع أنّ التعبير يُستعمل أكثر في المجال اليهوديّ) والخراج:
- المسيح: “ولما وصلوا إلى كفرناحوم، دنا جباة الدرهمَين إلى بطرس وقالوا له: ‹أما يؤدي معلِّمكم الدرهمَين؟› قال: ‹بلى›. فلمّا دخل البيت، بادره يسوع بقوله: ‹ما رأيك، يا سمعان؟ مِمَّن يأخذ ملوك الأرض الخراج أو الجزية؟ أمِن بنيهم أَمْ مِن الغرباء؟ › فقال: ‹مِن الغرباء›. فقال له يسوع: ‹فالبنون معفون إذًا. ولكن لا أريد أنْ نكون لهم حجر عثرة›” (متّى17/24-27).
أيضًا: “قل لنا ما رأيك: ‹أيحل دفع الجزية إلى قيصر أم لا ؟‹ فشعر يسوع بخبثهم فقال: ‹لماذا تحاولون إحراجي، أيّها المراؤون! أروني نقد الجزية›. فأتوه بدينار. فقال لهم: ‹لمَن الصورة هذه والكتابة؟ › قالوا: ‹لقيصر›. فقال لهم: ‹أدّوا إذا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله›” (متّى22/17-21).
- بولس: “أدّوا لكلّ حقّه: الضريبة لمَن له الضريبة، والخراج لمَن له الخراج، والمهابة لمَن له المهابة، والإكرام لمَن له الإكرام” (رومة 13/7).
– المحاكمة أمام القانون:
- حوكم يسوع أمام بيلاطس، وبولس رفع شكواه إلى قيصر واستعمل جنسيّته الرومانيّة التي ولد فيها للدفاع عن ذاته.
– احترام الانتظام العامّ:
- تعاطي بولس وسيلا في السجن: “إذ حدث زلزال شديد تزعزعت له أركان السجن، وتفتَّحت الأبواب كلّها مِن وقتها، وفُكّت قيود السجناء أجمعين. فاستيقظ السجّان، فرأى أبواب السجن مفتوحة، فاستلّ سيفه وهَمّ بقتل نفسه لظنّه أنّ المسجونين هربوا، فناداه بولس بأعلى صوته: ‹لا تمسّ نفسك بسوء، فنحن جميعًا ههنا›” (أعمال الرسل 16/26-28).
3. المواطنة والأسس ما-قَبْل القانونيّة وموقف يسوع والمسيحيّين الأوائل منها
ما قدّمناه مِن أمثلة على عيش المواطنة بحسب ما تقتضيه القوانين الرومانيّة، يدلّ مِن دون أدنى شكّ على أنّ يسوع والرسل لم يحيدوا عمّا يتوجّبه تطبيق القوانين احترامًا لمبدأ السلطة وما يتوجّب نحوها. لكن إذا أمعنّا النظر نجد أنّهم قاموا بذلك مراعاة للضمير، لكنْ هذا لا يعني أنّ يسوع والرسل كانوا يتبنّون الأسس ما-قبل القانونية التي أقيمت عليها هذه القوانين. أعود هنا فأذكّر بقول الرسالة إلى ديوغنتس: “يخضع المسيحيّون للقوانين، باعتبارهم مواطنين صالحين […] إلّا أنّ نمط حياتهم يسمو كمالًا على الشرائع وعلى القوانين. ولا يعملون إلّا الصلاح”.
هل في ذلك ازدواج؟ ربّما فسّر بعضهم ذلك ازدواجًا وهذا ما جلب على المسيحيّين الأوائل الاضطهاد. لكنْ إذا نظرنا إلى اضطهاد المسيحيّين نجده لا يعني الناحية العمليّة، بل موقفهم مِن الأسس ما-قبل القانونيّة في قوانين المواطنة. (ظلّـت هذه الإشكاليّة قائمة في الزمن الحديث، أذكر هنا بموقف روسّو مَثلًا مِن التناقض بين الأخلاق المسيحيّة وأخلاق المدينة. مع العلم أنّ القضيّة أكثر مِن مسألة أخلاقيّة).
لفهم هذه الإشكاليّة أكثر أعود إلى بعض ما أوردناه سابقًا، لكنْ بقراءة مِن منطلَق الأسس ما-قبل القانونية لفهم الموقف المسيحيّ مِن مضمون فكرة المواطنة. وهذا يلقي ضوءًا على بعض المفاصل المهمّة في العهد الجديد والطابع السياسيّ الذي تحمله. لست بحاجة إلى التذكير هنا أنّ كلمة إنجيل بحدّ ذاتها هي في الأصل تدلّ على معنى سياسيّ.
أهمّ المفاصل الأساسيّة التي جعلَت المسيح والكنيسة الأولى تأخذ مسافة مِن مفهوم المواطنة عند الرومان:
أوّلًا، مسألة اللاهوت السياسيّ عند المواطن الرومانيّ، مع أنّه كما رأينا أنّ القوانين الرومانيّة لا طابع دينيًّا لها، لكنّ الدِّين بقي له أهمّيّة كبرى على مستوى المدينة باعتباره حضور الآلهة في المدينة. إنّ تكريس النظام والطقوسيّة العامّة واحدة مِن تجلّيّات الحاجة إلى الدِّين لخلط رباط مجتمعيّ امتثالًا للقوانين. على هذا أتى في واجبات المواطن الرومانيّ: المشاركة في الطقوس العامّة. مِن بين هذه الطقوس عبادة الإمبراطور. أجاب العهد الجديد على هذا، أوّلًا بلسان يسوع؛ أَستعيد آيات استعملناها سابقًا، أعطيها معنى آخَر هنا: “أدّوا إذًا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله”، في المعنى الأوّل حدّد يسوع الالتزام بالواجب، لكنْ، بمعنى ثانٍ مبدئيّ، حدّد الفصل، لا فصل الدِّين عن الدولة، بل فصل التماهي بين الله وقيصر. الله هو الله، وقيصر هو قيصر، ولا خلط بينهما. هذا معناه أنّ السلطة ليست مقدَّسة بذاتها ولا صبغة قداسة لها. أكمَل بولس في هذا المعنى. أعود إلى الرسالة إلى أهل رومة. قرأت محاولة تفسيريّة لهذه الرسالة بمعناها السياسيّ لأحد الفلاسفة هو جاكوب تاوبس Jacob Taubes، يَعتبر أنّ هذه الرسالة سياسيّة بامتياز منذ السطور الأولى، حين ميّز بولس مفهوم الإيمان (بيستيس) مِن الإيمان الطبيعيّ (إمونا)، ومِن ثمّ تركيزه على اختياره وعلى بنوّة المسيح الذي “أقيم مسيحًا”. يصرّ بولس على صفات فيها نَفَس امبراطوريّ-ملوكيّ في بداية الرسالة إلى الجماعة في رومة حيث الإمبراطور وحيث الطقس الخاصّ بقيصر وديانة القيصر مُعتقد بهما ومُمارستان، بهدف تكوين حافز داخليّ لدى متلقّي البشارة ليجتمعوا في جماعة إيمان هي جماعة حرّيّة. وهذا يوضح موضوع الشريعة أيضًا في الرسالة وموضوع الروح الذي يخلق شعبًا جديدًا في المحبّة. بمعنى سياسيّ سوسيولوجيّ الروح يؤسّس شعبًا يقوم على أساس رباط حميميّة أخويّة مسؤولة تمتاز عن منطق المدينة عند الرومان، حيث الجماعة ترتبط بنظام تراتبيّة اجتماعيّة في مجتمع وظائف محدّدة ومصالح محدّدة. في هذا الإطار نفهم المعنى العميق لرومة 13 عن السلطة، بخاصّة عندما يقول بولس في قلب هذه الدعوة إلى طاعة السلطة : “وأنتم تعرفون في أي وقت نحن […] فالخلاص الآن أقرب إلينا ممّا كان يوم آمنّا” (11-12). ولهذا ربط الخضوع للسلطة أيضًا بمفهوم الخير. والغريب أنْ يقول في معرض مماثل أيضًا: “لا يكوننّ عليكم لأحد دَين إلّا حبّ بعضكم لبعض، فمَن أحبّ غيره أتمّ الشريعة” (8). إنّه نقد مبطّن لفهم السلطة: السلطة للخير ولخلق مجتمع تسوده المحبّة.
ثانيًا، التصنيف الطبقيّ. ما قلناه عن المحبّة مفاده أمرَين:
– المحبّة رباط داخليّ لا مصلحيّ كما في المجتمع الرومانيّ القائم على الشروط الطبيعيّة للحياة. المحبّة هي البحث عن الخير والعمل بموجبه. (تسليم يسوع الرعاية لبطرس). المحبّة “تهيكل” المجتمع مِن الداخل، بدل القانون الذي “يهيكله” مِن الخارج. (محبّة الأعداء ضدّ منطق المجتمع عامّة والرومانيّ بخاصّة).
– المحبّة تعني أنّ كلّ إنسان قيمة بذاته (مخلوق على صورة الله، وعند بولس معاد خلقه على صورة الابن) هنا منبع المساواة الحقيقيّة بين البشر (لا يونانيّ ولا يهوديّ، لا عبد ولا حرّ…) (لا نستهين بمعنى هذه الكلمات في زمانها).
ثالثًا، العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع، ملفت أنّ كلام بولس في رومة 13 عن السلطة يسبقه كلام عن الجسد والمواهب. هناك فهم مختلف للعلاقة بين الكلّ والجزء أي المجتمع والفرد. في المجتمع الرومانيّ العلاقة عضويّة بمعنى تبعيّة طبيعيّة وميكانيكيّة في آن، تقوم على حاجة الأفراد للبقاء وعلى قدرتهم على المساهمة في البقاء. وهذا ما يؤسّس لفكرة الانتظام المجتمعيّ. عند بولس يضع العلاقة على مستوى آخَر كما يصفه في الفصل 12: “فكما أنّ لنا أعضاء كثيرة في جسد واحد، وليس لجميع هذه الأعضاء عمل واحد، فكذلك نحن في كثرتنا جسد واحد في المسيح لأنّنا أعضاء بعضنا لبعض. ولنا مواهب تختلف باختلاف ما أعطينا مِن النعمة: فمَن له موهبة النبوّة فليتنبّأ وفقًا للإيمان، ومَن له موهبة الخدمة فليخدم، ومَن له التعليم فليعلِّم، ومَن له الوعظ فليعظ، ومَن أعطى فليعط بنية صافية، ومَن يرئس فليرئس بهمّة. ومَن يرحم فليرحم ببشاشة، ولتكن المحبّة بلا رياء. اكرهوا الشرّ والزموا الخير. ليودّ بعضكم بعضًا بمحبّة أخويّة. تنافسوا في إكرام بعضكم لبعض. اعملوا للربّ بهمّة لا تفتر وروح متّقد”. (4-12) مِن هنا نفهم موقفه مِن السلطة أنّها “أداة الله لخيرك”. إذًا المجتمع في الفهم المسيحيّ هو رباط حيويّ لا جسم آليّ. والسلطة فيه هي لإطلاق هذه الحيويّة مِن أجل الخير لا مِن أجل تحكّم وظيفيّ. إنّها بناء مشترك والأهم أنّ غايتها العمل للربّ لا لأيّ إنسان، إذًا دائرة حرّيّة في الربّ، الرأس والجسم على السواء كما يقول أغسطينوس. هذا ما دفع ببولس بعدما تكلّم على السلطة في رومة 13 أنْ ينتقل في الفصل ذاته إلى المحبّة كما أشرنا سابقًا ليقول: “إنّ الوصايا التي تقول: ‹لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشته› وسواها مِن الوصايا، مجتمعة في هذه الكلمة: ‹أحبب قريبك حبّك لنفسك›. فالمحبّة لا تنزل بالقريب شرًّا، فالمحبّة إذًا كمال الشريعة”. المحبّة مبدأ قيام السلطة وهي كمال عملها وملهمها.
هذه الأسس الثلاثة لم يعرفها المجتمع الرومانيّ. لذلك لم تقبل المسيحيّة مضمون المواطنة عند الرومان. وهذا كان له نتائج مهمّة إذ أوجدت مجتمعًا في قلب المجتمع الرومانيّ مِن دون أنْ تتصارع مع المجتمع الرومانيّ. فالمسيحيّة لم تقم بثورة خارجيّة، بل بثورة ذاتيّة داخليّة في قلب المجتمع لزرع قيم لم يعرفها المجتمع الرومانيّ. واحد مِن النماذج على ذلك نجده في رسالة بولس إلى فيلمون عندما يكتب له بولس يقول: “إلى الكنيسة التي تجتمع في بيتك […] لذلك إنّي، وإنْ كان لي إلى حدّ بعيد حرّيّة الكلام في المسيح لأن آمرك بما يجب عليك، فقد آثرت أنْ أسألك باسم المحبّة سؤال بولس الشيخ الكبير […] أسألك في أمر ابني الذي ولدته في القيود، أونيسمس […] أرده إليك، وهو قلبي […] لا ليكون عبدًا بَعد اليوم، بل أفضل مِن عبد، أي أخًا حبيبًا، وهو أخ حبيب جدًّا إليّ فكم بالأحرى إليك، إنْ في صلة بشريّة وإنْ في صلة في الربّ. فإنّ كنت تراني شريكًا لك في الإيمان، فاقبله قبولك لي […] أجل، يا أخي، إنّي أرجو أنْ تحسن إليّ هذا الإحسان في الربّ، فاشرح صدري في المسيح”.
خاتمة
مِن كلّ ما تقدّم يظهر بوضوح أنّ المسيحيّ يَقبل العيش كمواطن وفق قوانين المدينة، لأنّ القانون وجد لانتظام ضروريّ، لكنّ المسيحيّ لا يستسلم لروح القوانين إذا كانت تخالف مبدأ المحبّة. وهنا يولد جهاد مسيحيّ أكبر، هو جهاد تبديل روح القوانين لتصالح المواطنة بين شكل المساواة ومضمون المساواة، لأنّ المساواة مطلب حيث لامساوة، بحسب شيشرون، واللامساواة تتحكّم حيث لا وجود لنظرة سليمة للإنسان ومِن ثمّ للروابط المجتمعيّة التي تقوم بين البشر. لذلك المحبّة في المسيحيّة هي رباط، لكنْ لا مجرّد رباط خارجيّ، بل حقيقة مجتمعيّة أيضًا، مجتمع إخوة لا مجتمع ذئاب.
- الخوري الدكتور باسم الراعي هو حائز شهادة دكتوراه في اللاهوت والفلسفة السياسيّة مِن جامعة مونستر في ألمانيا. مسؤول قسم الأبحاث في المركز المارونيّ للتوثيق والأبحاث. له مؤلَّف بعنوان (ميثاق 1943 تجذُّر الهويّة الوطنيّة اللبنانيّة)، منشورات المركز المارونيّ للتوثيق والأبحاث، 2009؛ كما أنّ له مجموعة مِن الدراسات والمقالات.
[1] النصوص البيبليّة الواردة في هذه المقالة هي بحسب الترجمة العربيّة اليسوعيّة، بشكل عامّ.
RECENT POSTS
البيئة في الكتاب المقدَّس
البيئة في الكتاب المقدَّس الدكتور دانيال عيّوش RECENT POSTS
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ
المواطنة في وطنَين: أرضيّ وسماويّ الخوري د. سامي نعمة RECENT POSTS
الوطن في الكتاب المقدس
الوطن في الكتاب المقدس د. عيسى دياب مفهوم الوطن في الكتاب المقدَّس القسّ د. عيسى دياب* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 3/3/2023) هذه الندوة هي الأولى لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات،...