In Bible

موقف المسيح من السلطة الفاسدة

د. جوني عواد

موقف المسيح مِن السلطة الفاسدة

د. جوني عوّاد*

(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 27/5/2022)

مقدّمة القسّ د. عيسى دياب

هذه الندوة هي الثانية لهذه السنة بين ثلاث ندوات، نتناول فيها موضوع “قراءة الكتاب المقدَّس في السياق”. لقد استوحينا العنوان العامّ لهذه السنة وعناوين المحاضرات مِن الواقع اللبنانيّ بشكل مباشر، ومِن واقع المنطقة، والعالَم، بشكل غير مباشر؛ ونركّز خاصّة على موضوع “الفساد في السلطة الحاكمة”.

تعدَّدَت الآراء بشأن موقف يسوع المسيح مِن السلطة الحاكمة، فمِن قائل إنّه لم يتعرّض لها مطلَقًا، إلى قائل إنّه انتقدَها، إلى مَن يرى أنّه استَخدَم العنف المعنويّ والجسديّ حيالها. يجدر الانتباه هنا إلى أنّ السلطة الحاكمة، في زمن المسيح، لم تكن محدودة بالسلطة المدنيّة، بل تعدَّتها إلى السلطة الدينيّة التي كان لها حقّ البتّ بالأمور التي لها علاقة بالدِّين. مِن المفروض أنْ تكون السلطة الدينيّة رقيبًا على السلطة السياسيّة، فماذا لو كانت السلطتان فاسدتَين في المكان والزمان نفسهما، كما كانت الحال في زمن المسيح؟

لكنْ، ما هو الفساد في السلطة؟ برأينا هو استغلال السلطة لتحصيل مكاسِب شخصيّة، غير شرعيّة، أو بشرعيّة زائفة ومزوَّرة. هذا النوع مِن الفساد ممكن إيجاده في العالَم أجمع، لكن بنِسَب مختلفة.

إنّ محاولة اكتشاف موقف المسيح الحقيقيّ مِن السلطة الفاسدة، مدنيّة كانت أَمْ دينيّة، لهو مِن الأهميّة لأتباع المسيح في كلّ الأزمنة! فهؤلاء عليهم أنْ يسيروا في طريق ربّهم ومعلِّمهم. وفي زمننا، في لبنان، بل ربّما في المنطقة، كيف يجب أنْ يكون موقف المسيحيّين، وتصرّفهم العمليّ، حيال الحكّام والمسؤولين الفاسدين؟

هذه الأسئلة وغيرها يتناولها المحاضِر، بخبرته الواسعة ومهنيّته العالية، ليضع لنا أساسًا متينًا لفَهم موضوع “موقف المسيح مِن السلطة الفاسدة”، وسيستعرض أمامنا النصوص البيبليّة المفتاحيّة التي يمكننا أنْ نتعلّم منها بانتهاج علوم التفسير العلميّة المتعارَف عليها.

موقف المسيح مِن السلطة الفاسدة – د. جوني عوّاد

مقدّمة

في كتاب صدر له في عام 2011 حمل عنوان “الله والسياسيّون”، ووُزّع حينها على أعضاء المجلس النيابيّ اللبنانيّ، أكّد الراحل القسّ الدكتور غسّان خلف أنّ الموقف المسيحيّ مِن السلطة السياسيّة أو المدنيّة نابع مِن الشهادة الكتابيّة في أنّ الحاكم هو خادم لله، مستشهدًا بكلام بولس في رسالته لأهل رومية: (أقتبس) “لتخضع كلّ نفس للسلاطين الفائقة لأنه ليس سلطان إلّا مِن الله، والسلاطين الكائنة هي مرتبة مِن الله حتّى أنّ مَن يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة”[1].

انطلاقًا مِن هذا الموقف، واجب المسيحيّ لا يُختصَر في الخضوع للسلطات القائمة فحسب، إنّما في الصلاة مِن أجل الحاكم ليزوّده الله بالحكمة، وليحكم بالعدل ويوازي بين العدل والرحمة في أحكامه. أيّ موقف معارض للسلطة او للحاكم هو بمثابة تمرُّد على الله وعلى ترتيبه.

لا شكّ أنّ هذا الموقف المسيحيّ يتمتّع بحصانة كتابيّة ويدور في فلكه ليس فقط الرسول بولس بل أيضًا كاتب الرسائل الراعويّة وكاتب رسالة بطرس الأولى. لكنْ، هذا الموقف مِن السلطة ليس الموقف الكتابيّ الوحيد بحسب شهادات العهد الجديد.

وللمفارقة فإنّ كاتب رؤيا يوحنّا “يشَيطِن” السلطة السياسيّة ذاتها. عَنَيتُ بذلك الإمبراطوريّة الرومانيّة. ويدعو إلى مواجهتها، في الأمانة للمسيح.

السؤال الذي يطرح ذاته هنا: أمام هذه التعدّديّة في المواقف الكتابيّة، أيّ موقف كان ليسوع مِن السلطة السياسيّة؟ وبالأخصّ، إذا ما كانت فاسدة. هذا هو موضوع هذه الندوة والذي سأحاول سبر أغواره مِن خلال أربعة محاور.

أولًا سأحاول رسم المعالم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصادية للعالَم الذي عاش فيه يسوع وقدَّم رسالة مجيء الملكوت فيه. هذا المحور مهمّ جدًّا لأنّه يعرّفنا بالسياق التاريخيّ العامّ الذي تفاعَل معه يسوع، ويسهّل علينا فهْم أقواله وأعماله.

أمّا المحاور الثلاثة الباقية فهي مشاهد مِن الأناجيل انتقيتُها لقناعتي أنّها تمكِنُّنا مِن الاقتراب قدر الإمكان مِن موقف يسوع مِن السلطة الفاسدة. هذه المحاور الثلاثة أو المشاهد الكتابيّة الثلاثة عنونتُها:

المشهد الأوّل: أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله

المشهد الثاني: امضوا وقولوا لهذا الثعلب

المشهد الثالث: أنتم جعلتموه مغارة لصوص

المحور الأوّل: المعالم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة للعالَم الذي عاش فيه يسوع

تكشف لنا الأناجيل كما كتابات المؤرّخ اليهوديّ يوسيفوس أنّ يسوع عاش في عالَم معقَّد، تتحكّم بمعالمه السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ثلاث منظومات قائمة للسلطة. على رأس هذه المنظومات كانت الامبراطوريّة الرومانيّة.

رومة دخلَت على مسرح الأحداث في أرض فلسطين في القرن الأوّل عندما احتلّتها في القرن الأوّل ق.م. 63 ق.م. اهتمامات رومة الرئيسيّة في المناطق التي تحتلّها كان لها طابع اقتصاديّ يتمثّل بجباية الجزية لقيصر. لتحقيق أهدافها، اتّبعَت في فلسطين استراتيجيّة تنصيب ملوك أو حكّام محلّيّين موالين لها ينوبون عنها، قادرون على تأمين مصالحها الاستعماريّة وتمويل مشاريعها التوسّعيّة: جباية الجزية لقيصر كانت تتطلّب مِن وكلاء رومة المحلّيّين الترهيب والقهر ومنع أيّ اضطرابات ذات طابع أمنيّ مِن شأنها عرقلة تدفّق الجزية.

إذًا السلطة الأولى أو المنظومة الأولى للسلطة كانت رومة: سلطة غاصبة ومحتلّة. أهدافها خدمة مصالحها التوسّعيّة والاستعماريّة على حساب المقوّمات الحياتيّة للشعوب التي كانت تحتلّها.

المثال الكبير لوكلاء رومة المحلّيّين، أي الذين كانت تحكم مِن خلالهم، هو هيرودس الكبير الذي قتل أطفال بيت لحم. هيرودس الكبير كان مثالًا لوكلاء رومة مِن الحكام المحلّيّين. ففي العام 37 ق.م. نُصِّب رسميًّا مِن قِبَل الرومان مَلِكًا لليهود على أرض فلسطين، واستمرّ حكمه حتّى مماته في 4 ق.م. أي السنة التي وُلد فيها يسوع.

خلال حكمه، نجح في السيطرة على المؤسّسة الدينيّة اليهوديّة وأعطى لنفسه الحقّ في تعيين مَن يراه مناسبًا لمنصب رئيس الكهنة وإقالته ساعة يشاء تبعًا لأهوائه ومصالحه. كلّ هذا الإنفاق الماليّ الضخم على هذه المشاريع العمرانيّة التي قام بها هيرودس أتَت مِن الحِمل الضرائبيّ الثقيل الذي فرَضَه على المجتمع اليهوديّ.

هذا الحِمل الضرائبيّ، بالإضافة إلى الجزية لقيصر، أوصل المجتمع اليهوديّ آنذاك إلى حالة الإنهاك الاقتصادي مع نهاية حكمه. وهو ما تجلّى في الحركة التمرّديّة التي حصلَت بَعد موته مباشرة في العام 4 ق.م.، والتي كانت تعبيرًا عن امتعاض شعبيّ ضدّ سياساته الضرائبيّة وتردّي الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة والاعتقالات التعسّفيّة التي اتّبعها في مواجهة معارضيه. تدخّلَت رومة بشكل مباشر لإنهاء حالة التمرُّد، وكانت الحصيلة صَلب ألفَين مِن المتمرّدين!

صحيح أنّ هيرودس كان رجل إعمار، لكنّ اهتماماته الأساسيّة ومشاريعه العمرانيّة كانت بهدف حجز ما كان له في الإمبراطوريّة تبقيه في السلطة مَلِكًا لليهود.

عندما تكون اهتمامات الحاكم إرضاء سيّده المحتلّ مِن أجل منفعة شخصيّة للبقاء في السلطة، فهذا هو الفساد بعينه. عندما تكون اهتمامات الحاكم إشباع شهوة السلطة لديه على حساب العدالة الاجتماعيّة في المجتمع، فهذا هو الفساد بعينه. إذا كانت رومة المحتلّة الغاصبة بمقدّرات الشعوب التي احتلتها هي رأس المنظومات القائمة للسلطة زمن يسوع، فإنّ وكلاءها المحلّيّين مِن ملوك وحكّام كانوا المنظومة الثانية للسلطة.

بَعد موت هيرودس تمّ تقسيم مملكته وبقرار مِن أغسطس، على ثلاثة مِن أبنائه عُيّن هيرودس أنتيباس حاكمًا على الجليل وبيرية، أرخيلاوس على مناطق اليهوديّة والسامرة وأدومية، وفيلبّس على مناطق شمال شرق الجليل.

ما يهمّنا هو منطقتَي الجليل واليهوديّة كونهما كانتا المسرح الجغرافيّ والحيويّ لخدمة يسوع. الجليل في شمال فلسطين واليهوديّة في الجنوب. في الجليل، انتهج هيرودس أنتيباس سياسة والده العمرانيّة وبقي في الحكم أربعة عقود (40 سنة). أعاد بناء مدينة صفوريّة التي دمّرها الرومان كعقاب على التمرّد الذي حدث والذي كانت ضحيّته ألفَي شخص، كما سبق وذكرنا؛ وجعلها مركزًا للحضارة الهيلّينيّة، كما بنى مدينة طبريّة على الضفّة الغربيّة مِن بحر الجليل، تيمّنًا باسم الامبراطور طيباريوس قيصر وجعلها عاصمة قطاع الجليل مركزًا للتأثير السياسيّ والحضاريّ الرومانيّ. كلّ هذه المشاريع كانت تُموَّل مِن جيوب الفقراء الفلّاحين في الجليل.

إذ تخمِّن بعض الدراسات أنّ 90-95 % مِن سكّان الجليل كانوا مِن الفلّاحين الفقراء. أمّا البقيّة فكانوا يشكّلون الأقلّيّة الارستقراطيّة التي تملك الأراضي الشاسعة والمسيطرة على الدورة الاقتصاديّة في القطاع.

تقدِّر بعض الدراسات أيضًا أنّ الفلّاح الجليليّ، إذا ما أراد استئجار قطعة أرض ليزرعها ويسدّد مِن محاصيلها ضرائبه، قد يجد نفسه مضطرًّا لدفع نصف محصوله بدل استئجار الأرض. وفي حال كان الفلّاح يمتلك قطعة أرض صغيرة، ربع أو ثلث محصوله قد يذهب لتسديد ضرائب خزينة الدولة المحلّيّة والجزية لقيصر. وفي حال حصل خلل ما في المحصول بسبب مرض أصاب الزرع أو جفاف، فهذا مِن شأنه أنْ يجبر الفلّاح على الاستدانة لتسديد ضرائبه. عدم القدرة على دفع الدَّين غالبًا ما كان يؤدّي إلى مصادرة الأرض وانتهاء أمر الفلّاح كعامل يوميّ يعيش تحت رحمة أسياده مِن المتموّلين الارستقراطيّين.

ليست صدفة أنْ تكون الكثير مِن شخصيّات الأمثال التي علّم بها يسوع مستوحاة مِن هذا الواقع المؤلم، حيث نجد ربّ البيت، صاحب الكرم، الكرّامين، الفعلة، الوكلاء؛ العديد مِن هذه الأمثال هي نقد لواقع الأمور السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في فلسطين تحت الاحتلال الرومانيّ، وفي ظلّ طبقة محلّيّة حاكمة متحكّمة بمفاصل الأمور. ما يستدعي إعادة قراءة هذه الأمثال وتفسيرها مِن ضمن السياق التاريخيّ الذي نحاول رسم معالمه، كون العديد مِن هذه الأمثال قد تمّ “روحنتها” في الأناجيل الإزائيّة بسبب السياقات السرديّة التي وُضعَت فيها.

لم تكن الجزية لقيصر وضرائب الحكومة المحلّيّة الأعباء المادّيّة الوحيدة التي كان يرزح تحتها الجليليّون. فهناك أيضًا نظام العشور للهيكل والتقدمات المتعدّدة مِثل باكورة الغلّة والنصف شاكل أو الدرهمَين التي أتَت في وقت لاحق، وغيرها. كلّ هذه التقدمات التي كانت تدخل إلى خزينة الهيكل لخدمته وخدمة نظامه والقائمين عليه، كانت بمثابة عبء ثانٍ إضافيّ على فلّاحي الجليل، أنهكَت قواهم المادّيّة وجعلَت حياتهم بؤسًا وذلًّا. هذا كان واقع الأمور في الجليل تحت حكم أنتيباس. ولم يتغيّر كثيرًا عمّا كان عليه زمن والده. كلّ الأعباء الضريبيّة التي فرضها كانت بهدف ضمانة بقائه في السلطة وإرضاء لسيّده المحتلّ. المُحزن في هذا كلّه أنّ المصالح الشخصيّة لهؤلاء الحكّام كانت على حساب انتفاء العدالة الاجتماعيّة وتردّي الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة للمواطنين. عندما تُدمَّر العدالة الاجتماعيّة في مجتمع ما ويطغي منطق المصلحة الشخصيّة للحاكم، هذا هو الفساد بعينه.

أمّا في اليهوديّة (الجنوب)، وبعد حكم استمرّ عشر سنوات، اتّسم بعدم الكفاءة، خلع أرخيلاوس ابن هيرودس الكبير وأُخضعَت المناطق التي كانت تحت حكمه إلى الحكم الرومانيّ المباشر مِن خلال ولاة يُعيَّنون مباشرة مِن الامبراطور؛ مثال على ذلك بيلاطس البنطيّ.

مع بدايات الحكم الرومانيّ المباشر أي 6 م. على اليهوديّة، حصلَت انتفاضة محدودة إثر قرار رومانيّ بأنْ يُكتتَب كلّ شخص في مكان إقامته بهدف تنظيم شؤون القطاع ودفع الجزية لقيصر. قاد هذه الانتفاضة شخص باسم يهوذا الجليليّ. تحت عنوان أنّ أيّ اكتتاب هو اعتراف بربوبيّة رومة أو قيصر على أرض إسرائيل وشعبها، في حين أنّ لا ربّ سوى الله على شعبه إسرائيل. خلال فترة الحكم الرومانيّ المباشر في اليهوديّة، وفي غياب ممثّلين عن العائلة الهيرودسيّة، كان مِن الطبيعيّ أنْ يجمع منصب رئيس الكهنة في أورشليم بين المهام الدينيّة، مِن جهة، والمهام السياسيّة، مِن جهة أخرى. رئيس الكهنة خلال تلك الفترة أضحى الوسيط بين الوالي الرومانيّ والشعب اليهوديّ؛ هو المسؤول الأوّل تجاه الوالي الرومانيّ في الإدارة الذاتيّة للشؤون اليهوديّة. وبسبب حساسيّة وأهمّيّة المنصب، أَعطَت رومة لنفسها الحقّ في تعيين مَن تراه مناسبًا لمصالحها مِن رؤساء الكهنة اليهود وخلْع مَن لا يَخدم هذه المصالح أو يرفض الخضوع والتعاون. غالبًا ما كان الخيار لمنصب رئيس الكهنة يتمّ مِن خلال انتقاء الوالي الرومانيّ لمرشّح مِن مجموعة صغيرة مِن العائلات الكهنوتيّة اليهوديّة ذات الطابع الارستقراطيّ في اليهوديّة. هذا الترتيب في اليهوديّة كرّس وجود منظومة ثالثة للسلطة متمثّلة برئيس الكهنة والعائلات الكهنوتيّة الأرستقراطيّة.

هذا الامر دفع ببعض الباحثين في مجال العهد الجديد الى وصف اليهوديّة في تلك الفترة على أنّها كانت “دولة الهيكل التابعة”. بحكم موقعه كرئيس الكهنة وبالإضافة إلى المهام السياسيّة المناطة به، كان رئيس الكهنة المشرف الأوّل على النظام القائم في الهيكل والسلك الكهنوتيّ المرتبط به. وعندما نتكلّم عن الهيكل، نحن نتحدّث عن مؤسّسة كانت تتمتّع بالقوّة والتأثير، ذات مقوّمات ماليّة هائلة تدور في فَلَكها الحركة الاقتصاديّة لمدينة أورشليم.

 في كتاب لهما بعنوان “Bandits prophets and Messiahs” يقول ريتشارد هورسلي وجون هانسن عن هيكل أورشليم في زمن يسوع أنّ ما كان يُجمع مِن العشور وغيرها مِن التقدمات للهيكل بحسب فرائض الشريعة، ليس فقط مِن يهود فلسطين إنّما أيضًا مِن يهود الانتشار، شكَّل فائضًا مِن الغنى المكدَّس في أورشليم، لكنّه، أي هذا الغنى، لم يكن هناك آليّة تكفل إعادة توزيعه على مَن هم بحاجة إليه. على العكس، جزء كبير مِن هذا الغنى كان يُصرَف على الكهنة لتأمين حياة مترفة ويعاد الباقي إلى خزينة الهيكل على شكل معادن ثمينة.

واضح إذًا مِن هذا السرد التاريخيّ المقتضَب للمعالم السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة السائدة على أرض فلسطين زمن يسوع أنّ هناك ثلاث منظومات للسلطة تتحكّم بواقع الأمور، على رأس هذه المنظومات كانت الإمبراطوريّة الرومانيّة، يليها وكلاء رومة المحلّيّين مِن ملوك وحكّام، ومِن ثمّ السلطة الدينيّة السياسيّة اليهوديّة.

بحكم واقع هذه المنظومات الثلاث تكافلَت فيما بينها وتكاملَت بعضها مع بعض في خدمة مصالحها المادّيّة والشخصيّة والذاتيّة، وأفرزَت واقع أقلّ ما يقال عنه إنّه كان يفتقر إلى الحدّ الأدنى مِن العدالة الاجتماعيّة. والسؤال الذي يطرح نفسه أمامنا: كيف تعامل يسوع مع هذه المنظومات السلطويّة الفاسدة الغاصبة وأيّ موقف اتّخذ منها؟ هذا ما سنحاول تبيانه في المحاور الثلاثة القادمة.

المحور الثاني: نصوص كتابيّة تبيّن موقف المسيح مِن السلطة الفاسدة

1-            “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”

يُعتبر هذا القول مركزيًّا ليس فقط على صعيد معرفة موقف يسوع مِن السلطة السياسيّة الرومانيّة القائمة، إنّما أيضًا يُبنى عليه في اجتراح مفاهيم مسيحيّة عن طبيعة العلاقة بين العالَمين الروحيّ والزمنيّ. يرد قول “أعطوا ما لقيصر لقيصر…” في المشهد مِن الأسبوع الأخير لحياة يسوع الأرضيّة وهو يعلّم في الهيكل، وترويه لنا الأناجيل الإزائيّة (متّى ومرقس ولوقا). للاختصار، انتقينا السرد المرقسيّ لهذا المشهد.

 في هذا المشهد يتقدّم معارضو يسوع منه بهدف اصطياده بكلمة، ويسألونه بإطراء “نعلم أنّك صادق ولا تبالي بأحد لأنّك لا تنظر إلى وجوه الناس بل بالحقّ تعلّم طرق الله، يجوز أنْ تُعطى الجزية لقيصر أَمْ لا؟” نعطي أو لا نعطي؟ شكّلَت الجزية موضوعًا حساسًّا في زمن يسوع كونها كانت رمزًا للسيادة الرومانيّة على أرض اسرائيل وشعبه في فلسطين. وهو ما رفضه كثر وكان السبب الرئيسيّ للعديد مِن حركات التمرّد التي استعرضتُها قَبل قليل. وكانت أمرًا حيويًّا لخدمة مصالح رومة ومشاريعها التوسّعيّة.

إن أجاب يسوع على السؤال بنَعَم، سيُعتبر خائنًا وعميلًا مِن قِبَل بعضهم. وإنْ أجاب سلبًا، سوف يؤمّن جوابه دليلًا قاطعًا لمعارضيه على تمرّده وعلى لصق اتّهامات سياسيّة ضدّه تسهّل اعتقاله ومِن ثمّ تصفيته. عالِمًا بريائهم، يسألهم يسوع: لماذا تجرّبونني؟ ثمّ يطلب منهم أنْ يأتوه بدينار لينظر. فيعطونه دينارًا ويسألهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ يجيبون: لقيصر فيقول لهم: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.

ويتابع مرقس سرد المشهد ليقول: فتعجّبوا منه. لماذا التعجّب؟ لأنّ يسوع بذكاء فائق أجهض نيّتهم باصطياده بكلمة وأبقى نفسه خارج فخّ التجربة؛ فهو لم يُجِب لا إيجابًا ولا سلبًا، إنّما يبقى جوابه في دائرة الضبابيّة والرماديّة. هذه الضبابيّة والرماديّة في قول يسوع فتحَت الباب أمام العديد مِن التفسيرات والتأويلات عبر القرون.

في كتاب له تحت عنوان: “Uneasy Neighbors” يعرض Walter Pilgrim أربع مسارات أو أطروحات تفسيريّة لفهم قول يسوع “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ويعتبرها الأكثر تمثيلًا. سنحاول تلخيصها.[1]

‌أ.       الطرح الأول

هو الطرح التقليديّ الأوغسطينيّ- اللوثريّ والذي يفسّر هذا القول يسوع على أنّه اعتراف ضمنيّ مِن قِبَل يسوع لوجود مملكتَين شرعيّتَين: مملكة الله ومملكة قيصر. لكلّ منهما مكانته وواجب احترامه وضرورة إطاعته. كلاهما ترتيب إلهيّ. وكما الطاعة هي واجبة لله كذلك دفع الجزية واجب لقيصر.

‌ب.  الطرح الثاني

ينطلق مِن الافتراض بوجود مملكتَين. لكنّ الأولويّة بينهما هي لمملكة الله. مُلك قيصر ليس ترتيبًا إلهيًّا لكنّه واقع ويجب التعامل معه بإيجابيّة، دفع الجزية واجب، وأيّ نوع مِن التمرّد أو المواجهة مع مُلك قيصر أمر مرفوض ومُدان. ويجب على المسيح ألّا ينشغل بأمور مُلك القيصر.

‌ج.    الطرح الثالث

ينطلق أيضًا مِن الافتراض بوجود مملكتَين وأنّ الأولويّة بينهما هي الطاعة الكاملة لمُلك الله. على الرغم مِن أنّ مُلك قيصر ليس ترتيبًا إلهيًّا، إلّا أنّ هذا المُلك له مكانته؛ هو قائم لذلك دفع الجزية هو واجب. لكنْ، عندما يبدأ مُلك قيصر بالتضييق على أتباع يسوع في طاعتهم لله أو تتضارب ممارساته مع قيم ملكوت الله، فمِن حقّ المسيحيّ أنْ يعلن العصيان المدنيّ في وجهه مِن أجل المسيح. عدم دفع الجزية هو أحد التعبيرات لهذا العصيان.

‌د.      الطرح الرابع والأخير

يختلف جذريًّا عن الطروحات الثلاثة السابقة. إذ يرى أنّ القصد مِن قول يسوع هو أنّ الطاعة الكاملة هي واجب لله ولله فقط. فإنْ أعطى الإنسان لله كلّ ما هو لله لا يبقى أيّ شيء لقيصر. لذلك لا جزية لقيصر. الإشكاليّة الأساسيّة في الطروحات الثلاثة الأولى تكمن في الافتراض المسبق أنّ هناك مملكتَين: مملكة الله الروحيّة ومملكة قيصر الزمنيّة. وهذا باعتقادي افتراض لا ينسجم مع التمازج والانصهار الروحيّ والزمنيّ في الفكر الدينيّ اليهوديّ بشكل عامّ، ولا حتّى مع فكر يسوع بشكل خاصّ. كرازة يسوع مجيء ملكوت الله وخدمته التي جسّدَت حضور هذا الملكوت لم تكونا محصورتَين ببُعدهما الروحيّ، وإنّما طالتا كافّة جوانب الحياة الانسانيّة إنْ كانت سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة. مجيء ملكوت الله كان إيذانًا بوصول عالَم جديد فيه تطويبات وأخبار سارّة للفقراء والمساكين، وشفاء لمنكسري القلوب، وتحرُّر وإطلاق للمأسورين بأمراض وأرواح شرّيرة، وإطعام للجياع، وتمكين للمنبوذين والمهمّشين، ودعوات إلى إعادة انخراطهم اجتماعيًّا واقتصاديًّا في دورة الحياة الانسانيّة، ومشاركة للثروات المادّيّة، وإعادة نظم وترتيب للعلاقات الانسانيّة، بالأخصّ الجندريّة منها، على أسس الرحمة والتحنّن والمحبة والصدق والمسامحة والعدالة.

هذا العالَم الجديد هو نقيض العالَم السياسيّ أو النظام السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ الذي أفرزَته وأرسته السلطة السياسيّة الرومانيّة المحتلّة ووكلاؤها المحليّون.

مجيء ملكوت الله كشف عورات هذا النظام السياسيّ والمجتمعيّ الذي فرضته رومة. فأيّ موقف كان ليسوع منها؟ وما تداعيات هذا الموقف على دفع الجزية لقيصر؟

قول يسوع “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” في اعتقادي لا يجيب بوضوح على هذا السؤال المطروح. ولا يمكننا استخلاص موقف واضح ليسوع مِن السلطة الرومانيّة القائمة. نحن بحاجة أنْ ننظر إلى نصوص أخرى توضح موقف يسوع وتساعد في حلّ لغز ما قصده في قوله “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”.

في مشهد إزائيّ ذات طابع تعليميّ يظهر لنا بشكل أوضح موقف يسوع مِن السلطة السياسيّة بشكل عامّ.

للاختصار انتقيت سرد المتّاويّ للمشهد.

في هذا المشهد، تتقدّم أمّ ابني زبدي مِن يسوع وتطلب منه أنْ يجلس أبناؤها واحد عن يمين وآخَر عن يسار يسوع بملكوته. فيسألهم يسوع عمّا إذا كان باستطاعتهم أنْ يشربا الكأس التي سوف يشربها أو يصطبغا بالصبغة التي سيصطبغ بها. فيجيبان بإيجابيّة. يغيظ الحديث باقي التلاميذ. ويبدأ يسوع تعليمه قائلًا (أقتبس:) أنتم تعلمون أنّ رؤساء الأمم يسودونهم، أي يسودون الأمم، والعظماء يتسلّطون عليهم، فلا يكون هذا فيكم. بل مَن أراد أنْ يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا. مَن أراد أنْ يكون منكم أوّلًا فليكن لكم عبدًا. كما إنّ ابن الإنسان لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين.

الواضح مِن هذا المشهد التعليميّ ليسوع أنّ هناك تناقض جوهريّ بين ممالك العالم القائمة ومفاهيمها وممارساتها للسلطة والقوّة والعظمة، مِن جهة، وبين قيم الملكوت، ملكوت الله، وفهمها وتعريفها للسلطة والقوّة والعظمة.

ففي حين يسود الرؤساء ويتسلّط العظماء على أتباعهم في المنظّمات السياسيّة والمجتمعيّة لممالك العالَم، وينعم هؤلاء بالامتيازات وخدمة الذات والقدرة على الاستغلال، هناك رؤية جديدة للسلطة والقوّة والعظمة، ضمن جماعة الملكوت، تتمثّل ليس في خدمة الذات بل في بذل الذات مِن أجل الآخَرين.

في هذا النصّ ينكشف لنا بوضوح أكثر موقف المسيح المبدئيّ الناقد لمنظّمات السلطة السياسيّة القائمة. هذا النقد ليس مبنيَّا على الرفض المسبق والمطلق للسلطة السياسيّة، إنّما لقناعة يسوع بعدم قدرة السلطة السياسيّة أنْ توائم في فهمها وممارستها للسلطة والقوّة والعظمة مع ما يتطلّبه ملكوت الله.

مِن هذا المنطلق، تحتّم الطاعة المطلقة لله ولملكه على جماعة الملكوت الابتعاد الناقد مِن السلطة السياسيّة وتشكيل مجتمع بديل تعاش فيه قيم الملكوت، مجتمع بديل مقاوم سلميًّا للنظام السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ القائم مِن قِبَل السلطة السياسيّة. مجيء ملكوت الله هو نور في ظلمة مُلك قيصر ووكلاء قيصر المحلّيّين. يكشف عورات المنظومات السياسيّة القائمة ويقدّم بديلًا لمجتمع إنسانيّ أفضل قائم على بذل الذات مِن أجل الآخَرين وليس على خدمة الذات. إذًا، إذا كانت الجزية لقيصر رمزًا لربوبيّة قيصر على الأرض وعلى شعب إسرائيل، وتشريعًا لممارساتها السلطويّة الجائرة التي أفقدَت المجتمع عدالته الاجتماعيّة، بالقهر والترهيب، فهي بالتأكيد على تناقض مع مجيء ملكوت الله وقيمه.

مِن هنا قول يسوع “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” يعيد تصويب الأمور على ما هو لله.

 في العودة إلى الطروحات التي استعرضناها، إنّ الافتراض المسبق للمملكتَين غير صحيح وغير صائب على الأقلّ مِن منظار يسوع. هناك مملكة واحدة هي مملكة الله. مُلك قيصر ليس مُلكًا مستقلًّا بحدّ ذاته، إنّما جزء مِن النظام الأكبر للخلق الذي صنعه الله ويسوده ويملك عليه، بغضّ النظر إذا كان هذا المُلك الأرضيّ ساقطًا.

الموقف مِن مُلك قيصر يَعتمد أوّلًا وآخرًا على مدى انسجام هذا المُلك وتباينه مع إرادة الله لخلقه. فعندما تصبح الجزية لقيصر أداة للترهيب والقهر والمنفعة الذاتيّة والذلّ والافتقار والاستغلال وانتفاء العدالة الاجتماعيّة، الموقف اليسوعيّ أي موقف يسوع منها هو الابتعاد الناقد وبالتالي لا جزية لقيصر وتشكيل مجتمع بديل مقاوم يجسد إرادة الله ومُلكه.

2-            “أمضوا وقولوا لهذا الثعلب”

في مشهد مثير للجدل موجود حصريًّا في إنجيل لوقا، يتوضّح لنا موقف يسوع مِن المنظومة الثانية أي السلطة السياسيّة المتمثّلة بوكلاء رومة المحلّيّين. وبالتحديد هيرودس أنتيباس حاكم قطاع الجليل حيث ترعرع يسوع وعاش وبدأ خدمته هناك.

على الرغم مِن فرادة هذا المشهد وأهمّيّته، غير أنّ القسّ الراحل الدكتور غسان خلف لا يأتي على ذكر هذا النصّ البتّة رغم تخصيصه فصلًا كاملًا عن هيرودس أنتيباس. ففي لوقا 13: 31-33 يخبرنا لوقا أنّ بعض الفرّيسيّين أتوا إلى يسوع قائلين له: اخرج واذهب مِن ههنا لأنّ هيرودس يريد أن يقتلك. لا يخبرنا لوقا عن السبب الحقيقيّ وراء نيّة هيرودس أنتيباس قتل يسوع، كلّ ما يخبرنا إيّاه هو أنّ هيرودس أنتيباس، حتّى هذه النقطة مِن السرد، حتّى فصل 13، كان قد سجن المعمدان بسبب توبيخه له على زواجه مِن هيروديّا زوجة أخيه فيلبّس وإنّ فور سماع هيرودس أنتيباس عن يسوع، وما كان يقوم به مِن كرازة عن مجيء ملكوت الله، ارتاب وقال: يوحنّا هذا أنا قطعتُ رأسه، فمَن هذا هو الذي أسمع عنه مِثل هذا؟ وكان يطلب أنْ يراه.

الملفت في هذا المشهد أنّ يسوع لا يشكّك بتحذير الفرّيسيّين له، فإنْ كان هيرودس قد قَطَع رأس المعمدان، مِن المحتمل جدًّا أنْ يكون جادًّا في نيّته قتل يسوع، خصوصًا أنّ خدمته، واهتمامه بالفقراء والمهمّشين والمرضى والممسوسين، بدأت تكشف عورات سياسات وممارسات حكمهم.

في ردّه على تحذير الفرّيسيّين يجيب يسوع بقوله: امضوا وقولوا لهذا الثعلب أنا أخرِج شياطين وأشفي اليوم وغدًا، وفي اليوم الثالث أكمل. بل ينبغي أنْ أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنّه لا يمكن أنْ يهلك نبيّ خارجًا عن أورشليم.

بعدها يرثي يسوع أورشليم قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين لأنّها سترفض استقبال الآتي باسم الربّ يسوع.

هناك أمران مثيران للاهتمام في ردّ يسوع على تحذير الفرّيسيّين له. الأوّل هو وصف هيرودس أنتيباس بالثعلب، والثاني إصراره على متابعة خدمته مِن خلال طرد الشياطين والشفاءات، كردّ على تهديد هيرودس أنتيباس له.

وصفُ أحدهم بالثعلب كان ولا يزال وصفًا لمكر الشخص وخبثه واحتياله وقدرته على التدمير مِن خلال المناورة والمراوغة. وصفُ يسوع لهيرودس بالثعلب هو نقد لاذع لشخص هيرودس ولسياساته وممارساته السلطويّة التي أفقرَت أهل الجليل في سبيل خدمة مصالحه الوصوليّة والشخصيّة ومصالح مَن يقف وراءه مِن أسياده الرومان.

لكنّ الأهمّ مِن ذلك هو أنّ ردّ يسوع على تهديدات هيرودس له بالقتل كان إصراره في المضي قدمًا في طرد الشياطين والشفاءات. فما العلاقة بين الاثنَين؟ ما علاقة التهديد بالقتل، والردّ على التهديد بالقتل، بالاستمرار في طرد الشياطين والشفاءات؟

العلاقة بين هذَين الأمرَين لا يمكن فهمها ما لم نكن مقتنعين أنّ يسوع كان يملك نظرة رؤيوية ليس فقط لكرازته بمجيء ملكوت الله وخدمته، إنّما أيضًا لفهم العالَم مِن حوله.

فالعالَم هو خلق الله وهو حسن، لكنّ العالَم أضحى فريسة الشيطان وقوى الشرّ التي تعبث فسادًا وظلمًا فيه. خلاص العالَم الوحيد وتحريره مِن قبضة الشيطان ورجوعه إلى حضن الله لا يمكن أنْ يتمّ إلّا مِن خلال تدخُّل مباشر مِن الله في التاريخ: يسوع كان يملك اليقين أنّ الله كان يتدخّل بشكل مباشر في التاريخ مِن خلال شخصه وإرساليّته وخدمته، ليعلن مُلكه على الأرض ويكسر قبضة الشيطان وقوى الشرّ عليه، مِن خلال الشفاءات وطرد الشياطين. تقول الأناجيل: لكنْ إنْ كنت بإصبع الله أخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله. وكان يسوع يُخرِج الشياطين.

مِن هنا حكم هيرودس وسياساته وممارساته السلطويّة كما تلك المتعلّقة بقيصر وجزيته ما هي إلّا تجسيدات لقبضة الشيطان على العالَم. ومواجهة حكم هيرودس تكمن في إصرار يسوع لطاعته للسلطة ومُلك الله، ومتابعته طرد تلك القوى الشيطانيّة التي تقف وراء فساد حكم هيرودس وظلمه.

 تتطلّب المواجهة امتدادًا للعالَم الجديد الذي أتى مع مجيء ملكوت الله. كلّما تمدَّد هذا العالَم الجديد ودخل اليه كُثُر ليتشكّلوا به، تناقصَت رقعة سيطرة الشيطان وقوى الشرّ على العالَم.

إذا كان موقف يسوع المبدئيّ مِن الإمبراطوريّة موقفًا ناقضًا لسياساتها وممارساتها وإصراره على مواجهتها، فإنّ موقفه مِن وكلاء رومة كان أكثر حدّة إذ “شَيطَنَها” واتّهمها بالثعلبة وأصرّ على مواجهتها لكسر قبضتها على المجتمع.

3-            “أنتم جعلتموه مغارة لصوص”

هذا القول ليسوع هو جزء مِن مشهديّة ترويها لنا الأناجيل الأربعة المعروفة تقليديًّا بحادثة “تطهير الهيكل”. وهي غالبًا ما تثير التساؤلات حول تصرّف يسوع. للاختصار انتقيتُ سرد المرقسيّ لهذا المشهد.

وفي اليوم التالي لدخوله أورشليم يتوجّه يسوع إلى الهيكل ثمّ يدخل على الأرجح القسم الخارجيّ منه المخصَّص للأمم، ويبدأ بإخراج الذين كانوا يبيعون ويشترون. ثمّ يباشر بقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام ولا يدع أحدًا، يقول النصّ، يجتاز الهيكل بمتاعٍ (مرقس 11: 15-16).

بَعد ذلك يبدأ تعليمه قائلًا: أليس مكتوبًا بيتي بيت صلاة يُدعى لجميع الأمم، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص؟ فور سماع الكتبة ورؤساء الكهنة بذلك، بدأ التخطيط لقتل يسوع لأنّهم، بحسب إنجيل مرقس، بدأوا يخافون إذ بهت الجمع كلّه مِن تعليمه.

قد يتبادر إلى البعض للوهلة الأولى أنّ حادثة الهيكل لا علاقة لها بالموضوع الذي نحن بصدده: السلطة السياسيّة.

إلّا أنّ الصورة التي حاولنا رسم معالمها في المحور الأوّل أوضحَت أنّ الهيكل لم يكن مجرّد مؤسّسة دينيّة، إنّما أيضًا مركزًا للقوّة وعصبًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا تتأثّر إلى حدّ كبير به مدينة أورشليم بأكملها.

التسمية التقليديّة لهذا الحدث “تطهير الهيكل” هي أيضًا بحاجة لإعادة تصويب.

هذه التسمية تفترض أنّ وجود الصيارفة وكراسي باعة الحمام وغيرها هي علامات على تدنيس الهيكل وجاء يسوع ليطهّر الهيكل منها. فقَلَبَ الطاولات.

إلّا أنّ هذا التفسير لم يعد مقبولًا بَعد طرح E.P. Sanders في كتابه Jesus and Judaism الذي يرى أنّ وجود الصيارفة وباعة الحمام كانت ضرورية لخدمة نظام الذبائح للهيكل. الحجّاج الذين كانوا يتوافدون إلى الهيكل مِن مختلف مدن الإمبراطوريّة الرومانيّة كانوا بحاجة إلى تصريف أموالهم إلى عملة الهيكل المعتمدة. لذلك كان هناك ضرورة للصيارفة أو لتأمين التقديمات وشراء الاضحيات. هذا التبادل النقديّ والعلامات التجاريّة كانت ضرورية لمن هم حريصون على إطاعة وتطبيق فرائض الشريعة.

ولذلك لا يمكن اعتبار حادثة الهيكل تطهيرًا أو موقفًا سلبيًّا اتّخذه يسوع ضدّ النظام الذبائحيّ في الهيكل. إذا كان هذا الخطّ التفسيريّ صحيحًا فكيف نفهم مقاصد يسوع، إذًا، مِن حادثة الهيكل؟

في دفاع يسوع أو تبريره لعمله يطلق يسوع أقوالًا هي عبارة عن اقتباسَين مِن الأنبياء.

الاقتباس الأوّل مأخوذ مِن أشعياء النبي: بيتي بيت صلاة يُدعى لجميع الأمم.

السياق الأصليّ لهذا الاقتباس ينبئ أشعياء بقول الربّ احفظوا الحقّ وأجروا العدل، لأنّه قريب مجيء خلاصي واستعلان بِرّي. هكذا يبدأ الفصل (اشعياء 56).

 عن مجيء خلاص الربّ ستكون كلّ شعوب الأرض مدعوّة للمشاركة ولعبادة الربّ على جبل قدسه حيث تُقبل محرقات كلّ الشعوب وذبائحها على مذبح الربّ. لماذا؟ لأنّ بيتي بيت صلاة يدعى لكلّ الشعوب.

الواضح مِن هذا النصّ أنّ حفظ الحقّ وإجراء العدل هما ضرورتان لمجيء خلاص الربّ وصيرورة الهيكل بيتًا للصلاة لكلّ الشعوب.

أمّا الاقتباس الثاني “أنتم جعلتموه مغارة لصوص” فهو مأخوذ مِن عظة إرميا في الهيكل حيث ينادي إرميا بكلمة الربّ لجميع يهوذا ويدعوهم إلى اصلاح طرقهم وأعمالهم وإجراء العدل وعدم ظلم الغريب واليتيم والأرملة وسفك الدماء الذكية والسير وراء آلهة أخرى. ثمّ يخاطبهم قائلًا: ها أنتم متّكلون على كلام الكذب الذي لا ينفع، تسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون كذبًا وتخرّون للبعل وتسيرون وراء آلهة اخرى لم تعرفوها، ثمّ تأتون وتقفون أمامي في هذا البيت (أي في هيكل) الذي دعي باسمي وعليه تقولون قد أُنقذْنا؟ وحتّى تعملوا كلّ هذه الرجاسات هل صار هذا البيت الذي دعي اسمي عليه مغارة لصوص في أعينكم؟ (هذا قول الربّ). الواضح مِن هذا السياق الأصليّ للاقتباس الثاني هو نقد إرميا لقادة إسرائيل وبالأخصّ القائمين على الهيكل وعلى طرقهم وأعمالهم الملتوية إلى أنْ أصبح بيت الربّ شبيهًا بمغارة لصوص.

عندما ننظر إلى حادثة الهيكل مِن منظار هذَين الاقتباسَين والسياقات الأصليّة التي وردَت فيها، لا يمكننا اعتبار ما قام به يسوع تطهيرًا للهيكل، إنّما احتجاج علنيّ ليس على الهيكل ولا على النظام الذبائحيّ في الهيكل، إنّما على السلطة الدينيّة المشرفة على الهيكل، وعلى سياساتها وممارساتها الجائرة بحق الله، وبحق شعب إسرائيل، حيث لا حفظ للحقّ ولا إجراء للعدل، إنّما طرق ملتوية وظلم وكذب وسرقة وقتل وزنا.

في هذا السياق يعلّم Walter Pilgrim قائلًا: نعرف كلّ المعرفة تاريخيًّا أنّ في زمن يسوع كان هناك نظام ممنهج مِن الاستغلال مِن قِبَل المشرفين مدنيًّا ودينيًّا على الهيكل؛ رؤساء الكهنة وعائلاتهم كانوا يسيطرون على الهيكل دينيًّا واقتصاديًّا. مِن خلال الهيكل وموارده جمَعوا الغنى الفاحش الذي مكّنهم مِن السيطرة والتأثير، وبسبب سياساتهم وممارساتهم غير العادلة والفاسدة، اقتنوا العقارات الضخمة والمساكن الفخمة، وأمعنوا في دفع الرشاوى ونسجوا علاقات المصالح الذاتيّة مع الولاة الرومان الذين تعاقبوا. الشعب كان على معرفة بكلّ هذه الأمور، كذلك نعرف أنّ المجموعات اليهوديّة المتمرّدة على الاحتلال الروماني كانت تعتبر الصدّوقيّين النخبويّين العائلات الكهنوتيّة مِن رؤساء الكهنة أعداء لهم. ويعلم الشعب هذا الأمر. هذا العداء ظهر جليًّا في انتفاضة العام 66 م. التي أدّت إلى حرب في أورشليم وتدمير المدينة والهيكل. عندها سيطر المتمرّدون على أورشليم والهيكل. أوّل عمل قاموا به كان إتلاف سجلّات الديون المستحقّة للنخبة الأغنياء في اليهوديّة ووقف الصلاة مِن أجل قيصر في الهيكل، كما الهجوم على النبلاء والرؤساء الكهنة والعائلات الكهنوتيّة في المدينة. حادثة الهيكل ليست تطهيرًا للهيكل بقدر ما هي احتجاج علنيّ ضدّ المنظومة السياسيّة الدينيّة الثالثة وقياداتها المشرفة على الهيكل المتحكّمة بالمفاصل السياسيّة والاقتصاديّة التي ارتبطَت بالهيكل، وضدّ ممارساتها التي كرّسَت وشَرعنَت نظامًا متكاملًا مِن استغلال ونهش لموارد الهيكل، بدل أنْ يعاد توزيع هذه الموارد على مَن هم بحاجة له مِن شعب إسرائيل.

إنّ احتجاج يسوع والطريقة التي عبّر فيها عن هذا الاحتجاج مِن قلب للموائد الصيارفة لربّما له معانٍ رمزيّة، القصد منها الأنباء بدمار الهيكل على غرار ما فعله إرميا النبيّ، عندما طلب الربّ منه كسر إبريق فخّاريّ علامة على حكم الله الوشيك بالدمار على مدينة أورشليم وهيكلها وشعبها. لماذا؟ لأنّ الهيكل لم يعد يفي بالغرض الذي وُجد مِن أجله، وهو أنْ يكون بيت صلاة لكلّ الشعوب، إّما أصبح مغارة للّصوص.

خاتمة

بيَّن هذا البحث أنّ في زمن يسوع كان هناك ثلاث منظومات للسلطة تكافلَت فيما بينها وتكاملَت بعضها مع بعض في السيطرة على المقوّمات الحياتيّة والمقدّرات المادّيّة لشعب اسرائيل في القرن 1 م.

نسجَت هذه المنظومة بعضها مع بعض شبكة مِن القوّة والتأثير، خدمةً لمصالح مادّيّة وتوسّعيّة ولمنفعة ذاتيّة شخصيّة ولمآرب سلطويّة، أنهكَت المجتمع اقتصاديًّا وأفقدته عدالته الاجتماعيّة.

لم ينأى يسوع بنفسه عن أخذ موقف واضح مِن سياسات وممارسات هذه المنظومات السلطويّة. على العكس هو كَشَف الاقنعة عن وجوهها، وفضح عوراتها وانتقدها و”شيطنها” واحتجّ ضدّها، وضدّ سياساتها وممارستها، ودعا إلى مواجهتها ليس بالعنف، إنّما مِن خلال مجتمع بديل تعاش فيه قيم الملكوت، يجسّد إرادة الله لخلقه ويكون الخميرة التي تخمِّر المجتمع وتجدّد وتغيّر ملامحه.

[1] Walter E. Pilgrim, Uneasy Neighbors (Overtures to Biblical Theology), Fortress Press (May 14, 1999).

  • يحمل الدكتور جوني عواد درجة دكتوراه فلسفة مِن كلّيّة برنستون اللاهوتيّة Princeton Theological Seminary، وهو أستاذ مشارك، في الموادّ الدراسيّة المتعلّقة بالعهد الجديد، في كلّيّة اللاهوت للشرق الأدنى، ودرَّسَ في جامعات أخرى، وله عدد كبير مِن المقالات العلميّة المنشورة في حقل اختصاصه. والدكتور عوّاد هو أيضًا أمين سرّ لجنة الشؤون التربويّة والتعليميّة في السينودس الإنجيليّ الوطنيّ في سورية ولبنان، وعضو مجلس إدارة الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة LAU، وعضو في الرابطة الكتابيّة.

[1] النصوص البيبليّة الواردة في هذه المقالة هي بحسب ترجمة الكاتب، بشكل عام.

Recommended Posts
Contact Us

We're not around right now. But you can send us an email and we'll get back to you, asap.

Not readable? Change text. captcha txt

Start typing and press Enter to search

×