مقاربات الكتاب المقدس وخلفيات القراءة وأنواعها

عيسى دياب

“هيك بيقول الكتاب”، جملة يرددها، بيقين وحزم، بعض قرّاء الكتاب المقدس، وكأنهم توصلوا إلى التمييز اليقين بين الحق والباطل، وإلى التعرّف على “الحقيقة المطلقة”، وكل من له فهم مختلف هو على خطأ. عندما أسمع هذه العبارة من أحدهم في أي جدل ديني أو لاهوتي، استنتج أن قائلها ليس على دراية بأن مسألة فهم النصوص الدينية القديمة، مثل الكتاب المقدس، مسألة معقدة وتحتاج إلى كثير من المعارف والتقنيات اللغوية. إن ما يجعل قراءة الكتاب المقدس وتفسيره مسألة معقدة هو أن هذه النصوص كتبها كُتّاب عديدون عاشوا في أزمنة مختلفة، والنصوص كُتبت في أزمنة مختلفة تمتد على مترة طويلة، والآساليب الأدبية التي كُتبت فيها هذه النصوص مختلفة كثيرًا. هذا ناهيك عن مسألة التعرف إلى كيفية تكوّن الكتاب المقدس، التي هي مسألة في منتهى التعقيد.

إن غرضي، في هذا المقال، أن أعرض المقاربات المتعددة التي يقارب بها القرّاء الكتاب المقدس، وخلفيات القراءة، وأنواعها، وتقنياتها. لعلي أستطيع أن أساعد الذين يستخدمون الكتاب المقدس على فهم صعوبة الموضوع، ومن ثم فهم نصوصه فهمًا أكثر موضوعية.

أولاً: الكتاب المقدس والعوامل المؤثرة في قراءته

نقدم، في هذا القسم، نظرة عامة عن الكتاب المقدس للقارئ غير المتخصص؛ ثم نتكلم عن العوامل التي تؤثر في قراءة الكتاب المقدس وفهمه؛ على أن نخصص لبعض العوامل المهمة أقسام رئيسة نتكلم عنها بشرح مطوَّل.

1. الكتاب المقدس- نظرة عامة

“الكتاب المقدس” تسمية أطلقها المسيحيون على مجموعة من الكتابات الدينية المتعلقة بنشأة الديانة الإسرائيلية القديمة (الموسوية) واليهودية والمسيحية؛ وهذه الكتابات موزعة على عدد من الكُتُب، نسمّيها “أسفارًا”. هو إذن مجموعة من الأسفار اكتسبت صفة “المقدس” لدى اليهود (في قسم منه كما سنرى) والمسيحيين، وأحيانًا بقرارت مجمعية صادرة عن السلطة الدينية، لذلك تُدعى أحيانًا “الأسفار القانونية” . ولصفة “المقدس” عدة دلالات. هي تعني أن هذا الكتاب يبحث في أمور “المقدّس”، مقارنة مع “الدنيوي.” هذا كتاب يُعنى بالإلهيات؛ هو “كلام الله”، ولهذه العبارة مفاهيم مختلفة؛ هو وحي من الله، ولموضوع الوحي مفاهيم مختلفة؛ هو كتاب مرجعي ومعياري يحيث يتضمن المبادئ المتعلقة بالدين والعبادة والممارسات والسلوك، ويُركَن إليه للبت بهذه الأمور.

وفي الوقت نفسه، الكتاب المقدس من أقدم الكُتب؛ ويُعتبَر من التراث العالمي، يقرأُه ليس المسيحيون واليهود فحسب، بل المتخصصون بالتاريخ، وتاريخ الديانات والحضارات والعلوم، والفلاسفة، والأخصيائيون في علم الاجتماع، وخاصة الديني، وعلم النفس. هؤلاء يقصدون قراءته طلبًا للمعرفة العلمية كون الكتاب المقدس منجم في هذه الحقول المعرفية.

هذه الكتابات “المقدسة”، التي أعطتها السلطة الدينية (في اليهودية والمسيحية) صفة “المقدس” و”القانونية” على أنها كتابات مرجعية ومعيارية لكل ما يتعلق بالإيمان (العقيدة) والسلوك، كونها كتابات موحى بها وهي “كلام الله”، هي، بالنسبة للمؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع والأخصّائي في علم النفس والسلوكيات، كتاب ديني قديم، يجوز إخضاعه للفحص والنقد والتحليل، كغيره من الكتب، بغية الحصول على معلومات علمية صحيحة. من هنا تأتي أهمية تحديد المقاربة التي يقارب بها القارئ الكتاب المقدس لأنّ لهذا تأثيره على القراءة والفهم.

ينقسم الكتاب المقدس إلى قسمين: العهد القديم والعهد الجديد. اللغة الأصلية للعهد القديم هي العبرية باستثناء مقاطع قصيرة، في بعض الأسفار، كُتبت بالآرامية. واللغة الأصلية للعهد الجديد هي اليونانية القديمة، المسماة “القينية”.  العهد القديم بمعظمه واحد في كل الكنائس المسيحية، لكن توجد اختلافات بسيطة بين الكنائس لجهة عدد أسفار العهد القديم وترتيبها.

تُرجم الكتاب المقدس إلى آلاف اللغات، لكن الترجمات الأهم هي القديمة لأنها اكتسب صفة المرجعية على غرار النصوص باللغات الأصلية. هذه الترجمات هي ترجمة الكتاب المقدس العبري إلى اليونانية القينية، والتي تُسمى “السبعينية”، وهي من القرن الثاني ق.م. تقريبًا؛ وترجمة الكتاب المقدس العبري إلى الآرامية، وتُسمى “الترجوم”، وبقيت هذه الترجمة شفوية لقرون ثم، في القرن الرابع، وُضعت كتابة؛ وترجمة الكتاب المقدس المسيحي إلى السريانية، وتُدعى “البشيطو” أو “البشيطا”، وتعود في القرن الرابع؛ وترجمة الكتاب المقدس المسيحي إلى اللاتينية القديمة، وتُدعى “الفولغاتا”، وتعود إلى القرن الرابع. الترجمة السبعينية تضم، إلى القانون العبري، عددًا من الكتب اليونانية؛ وقد رُتِّبت فيها الأسفار بتوزيع يختلف عن التقسيم في القانون العبري، فبينما يتحوي القانون العبري على ثلاثة أقسام- التوراة والأنبياء والمكتوبات- تحتوي السبعينية على أربعة أقسام: التوراة والأسفار التاريخية والأسفار الحِكمية والأنبياء.

أما عدد أسفار الكتاب المقدس وترتيبها، فالكتاب المقدس العبري يحتوي على 22 سفرًا (وبحسب تقسيم آخر 24 سفرًا) موزعة على ثلاثة أقسام رئيسة: التوراة، والأنبياء، والمكتوبات. المحتوى نفسه موجود في العهد القديم البروتستانتي لكن في 39 سفرًا موزعة على أربعة أجزاء: التوراة، والأسفار التاريخية، والأسفار الحِكَمية، والأنبياء، وقد استوحي هذا التقسيم من السبعينية. تحتوي العهد القديم الكاثوليكي على القانون العبري لكن بالتقسيم المتّبع في السبعينة وإضافة سبعة أسفار أخرى تُدعى الأسفار اليونانية، أو أسفار القانونية الثانية، أو أسفار الأبوكريفا. وهكذا يصبح العهد القديم الكاثوليكي مؤلفًا من 46 سفرًا. أما الكنائس الأرثوذكسية فهي تعتمد لوائح مختلفة. معظم الكنائس الأرثوذكسية الخلقيدونية، والكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية، تعتمد الترجمة اليونانية المسمّاة “السبعينية” كالعهد القديم في كتابها المقدس. والكنيسة السريانية تعتمد الترجمة السريانية المسماة “البشيطو” أو “البشيطا”. والكنيسة الرومية الكاثوليكية تعتمد ترجمة الفولغاتا.

2. العوامل المؤثرة في قراءة الكتاب المقدس

نعتقد أن قراءة الكتاب المقدس وتفسيره تتأثر بالعوامل التالية:

2/1. النظرة إلى الكتاب المقدس: كتاب مقدس، أم كتاب تراث؟

على القارئ أن يحدد نظرته إلى الكتاب المقدس.  هل يعتبره كتابًا مقدسًا يحتوي على كلمة الله الموحى بها بالروح القدس، ويتمتّع بسلطة مرجعية في أمور الإيمان والسلوك؟ أم يعتبره مجرّد كتاب قديم فيه تراث ديني، يهودي ومسيحي؟ ففي النظرة الأولى يكون التركيز على الإيمانيات والسلوكيات والروحانية؛ أما في النظرة الثانية، يكون التركيز على التاريخ والفلسفة وتاريخ الديانات وعلم الاجتماع الديني، وتاريخ الآداب الكلاسيكية. هاتان النظرتان لا تنفصلا عن بعضهما فصلاً تاما، أي أن من يعتبره كتابًا مقدسًا لا ينكر أهمته الأدبية والتاريخية والاجتماعية، ومن يعتبره تراثًا أدبيًا لا ينكر قيمته الدينية والتاريخية والاجتماعية؛ ومن يعتبكره إرثاً تاريخيًا واجتماعيًا، يعترف بأهميته على الصعيد الروحي والأدبي .

2/2. الخلفية الدينية: القارئ هو مسيحي أم يهودي؟

 القارئ المسيحي يعترف بان العهد القديم والعهد الجديد كلاهما كتاب مقدس. غير أن لائحة أسفار العهد القديم تختلف من تقليد مسيحي إلى آخر. ثم أن المسيحي يقرأ العهد القديم على خلفية العهد الجديد، وهذا ما يُدعى “القراءة المسيحية للعهد القديم. القارئ اليهودي يؤمن بأن ما يسميه المسيحيون العهد القديم هو الكتاب المقدس الأصلي.

ننطلق هنا من كونه “كتابًا مقدسًا”، مرجعًا لكل ما يتعلق بالإيمان والسلوك؛ ونميز بين ثلاث خلفيات للقراءة:

  1. الخلفية اليهودية، وهي تتعلق بالعهد القديم فقط، هو “الكتاب المقدس العبري”، وهو يتضمن مسيرة الله مع شعب إسرائيل من البداية إلى النهاية.
  2. الخلفية المسيحية، وهي التي ترى أن كل ما في الكتاب المقدس هو عن المسيح، فالعهد القديم هو مرحلة تحضيرية ونبوية عن المسيح، والعهد الجديد هو مرحلة تحقيقية، والمسيح في الكنيسة أو والكنيسة هو إسرائيل الجديد.
  3. الخلفية اليهو-مسيحية، وهي التي تقرأ العهد القديم كما يقرأه اليهود (الله وشعبه إسرائيل)، وتقرأ العهد الجديد كما يقرأه المسيحيون مع الفارق أن مواعيد الله لإسرائيل ثابتة وستتحقق. إسرائيل هو شعب الله والكنيسة هي أيضًا شعب الله.

من الخطأ الاعتقاد أن القراءة اليهودية تتم من قِبَل قارئ يهودي، والقراءة المسيحية من قِبَل قارئ مسيحي، فقد يدرس المسيحي العهد القديم بعيون يهودية، وقد يدرس اليهودي العهد القديم بعيون مسيحية، وقد يدرس الإثنان الكتاب المقدس بعيون يهو-مسيحية

2/3. النظرة إلى كيفية تكوّن الكتاب المقدس: هل له مصادر تاريخية أم أن مادته أتت للكاتب بالوحي؟

في حال اعتبر القارئ البيبليا كتابًا مقدسًا، كيف ينظر القارئ إلى موضوع تكوّنه؟ هل يأخذ القارئ بالنظريات العلمية، المبنية على النقد التاريخي للكتاب المقدس. تلك النظريات التي تجد لبعض النصوص مصادر من التراث العالمي، وتولي الجهد البشري دورًا كبيرًا في تكوّن النصوص؟  أم يقبل النظريات التقليدية رافضًا النقد التاريخي جملة وتفصيلًا. تلك التقاليد التي تحدد أسماء الكُتّاب، وتواريخ الكتابة، وترفض أي مصادر أرضية بشرية للمكتوب، لأن الكتاب له مصدر وحيد هو الله.

2/4. النظرة إلى الوحي: تنزيل أم إلهام؟

في حال اعتبر القارئ البيبليا كتابًا مقدسًا، كيف ينظر إلى موضوع “الوحي” و”السلطة”؟ هل يأخذ القارئ بالنظريات العلمية التي تولي الجهد البشري دورًا كبيرًا في تكوّن النصوص وتعطيهم الحق بامتلاك وعي شخصي أن ما كتبوه كان إلهامًا إلهيًا؟  ما هي نظرية الوحي التي يعتمدها؟ هل هو تنزيل، بحيث يجب التركيز على المفردات بحرفيتها والمعنى القواعدي والمعجمي؟ هل هو وحي حرفي بحيث أن كل كلمة هي من اختيار الروح القدس؟ هل الوحي هو إلهام، بحيث أن الكاتب تلقى إلهامًا بالأفكار وصاغها بأسلوبه الأدبي الخاص وعلى خلفية النظريات العلمية السائدة في زمنه؟

2/5. تحديد هدف القراءة: تأمل روحي؟ أم تحليل أدبي؟ أم دراسة تاريخ الفكر الديني أو أي موضوع تاريخي آخر؟

على القارئ أن يحدد الهدف من القراءة: هل الهدف علمي تاريخي مثل درس تاريخ الفكر الديني، أو درس تاريخ إسرائيل وبدايات اليهودية، أو درس بدايات المسيحية، أو درس تاريخ الفكر الديني؟ أم الهدف روحي حيث يهدف القارئ إلى التأمل في كلام الله بهدف التعمق في الأمور اللاهوتية أو الأخلاقية ليتمكن من العيش بالمبادئ الإلهية وشحن الحياة الروحية؟ وإن تعددت الأهداف من قراءة الكتاب المقدس، يمكن اختصارها بهدفين رئيسين:

  1. هدف علمي: دراسة تاريخ الشرق الأدنى القديم، دراسة تاريخ إسرائيل القديم وديانتها وتاريخ اليهودية، دراسة الديانات الكنعانية القديمة، دراسة تاريخ الفكر الديني، دراسة تاريخ الحضارات القديمة، …
  2. هدف ديني: التعرف على الله (هويته وصفاته)، وعالمه (السماء والأرواح والملائكة)، وعمله (الخلق والعناية بالخليقة)، وعلاقته بالخليقة، وإرادته (الإيمان والسلوك). أو شحن القلب بطاقة روحية وأخذ الإرشاد الروحي لحياتي…

من الخطأ الاعتقاد أن قراءة الكتاب المقدس بهدف علمي تتم من قِبَل قارئ علماني غير مؤمن، والقراءة بهدف ديني تتم من قِبَل قارئ مؤمن. إن كلا القرائتين يمكن أن تتمان من قِبَل إنسان مؤمن أو قارئ علماني.

2/6. إتقان تقنيات القراءة

من أجل قراءة علمية وموضوعية ينتج عنها تفسير صحيح، على القارئ أن يتقن تقنيات القراءة: إتقان لغات الكتاب المقدس الأصلية، ومعرفة قواعد الصرف والنحو للِّغات الأصلية واللغة التي يقرأ بها النص؛  معرفة عالم الكتاب المقدس وتاريخه وحضاراته معرفة وافية؛ إتقان الفنون والأساليب الأدبية التي استخدمها الكُتّاب، وإجادة استخدام النقد الأدبي، وإتقان استخدام قواعد الألسنية وتحليل النصوص وعلم المعاني.

ثانيًا: موقفان ومقاربتان للكتاب المقدس

يوجد، إجمالاً، موقفان من الكتاب المقدس، كُنّا أتينا على ذكرهما أعلاه:   الكتاب المقدس عمل أدبي من إنتاج بشري كغيره من الكتب، والكتاب المقدس كتاب موحى به- مهما كانت نظرية الوحي- هو، أو فيه، كلمة الله للبشر. هذان الموقفان يحتمان وجود مقاربتين مختلفتين للنص: مقاربته كتراث أدبي، ومقاربته كوحي إلهي. المقاربة الأولى مستقلة بذاتها؛ أما المقاربة الثانية فهي لا تنفي بالضرورة عدم الحاجة إلى المقاربة الأولى والاستفادة منها.

1. مقاربة الكتاب المقدس كتراث أدبي

2. مقاربة الكتاب المقدس كوحي إلهي

ثالثًا: النظرة إلى كيفية تكوّن الكتاب المقدس[1]

استغرق تكوّن الكتاب المقدس وقتًا طويلاً، وساهم في كتابته كُتّاب عديدون، نعرف اليوم أسماء بعض منهم، ونسب التقليد بعض الكتب إلى كُتّاب آخرين، وتوجد أسفار نجهل كُتّابها تمامًا.  كُتِبت الأسفار في أزمنة مختلفة تمتد على فترة زمنية طويلة تفوق الألف سنة، وبسياقات تاريخية وحضارية مختلفة، وبأساليب أدبية مختلفة.

1. العهد القديم

نظرًا لطول الحقبة الزمنية التي تغطيها مادة العهد القديم، ولتعدد المراحل التي مرَّ بها تكوُّنه، ولتعدد الأجناس الأدبية والأساليب البلاغية التي تحتوي عليها مادته، ولتعدد مواضيعه، يُعتبر موضوع تكوُّن العهد القديم معقدًا للغاية. لكن هناك تقاليد قديمة العهد تنسب بعض الأسفار لكتّاب معينين وتحدد تواريخ بعض الأحداث، لذلك هناك نظرية تقليدية ونظرية نقدية لموضوع تكوُّن الكتاب المقدس.

1/1. النظرية التقليدية

تقول النظرية التقليدية لتكوُّن الكتاب المقدس إن نصوص الكتاب المقدس العبرية كتبها أشخاص معروفون في تاريخ إسرائيل القديم،  مثل موسى، ويشوع، أو صموئيل. فهم أخذوا على أنفسهم تسجيل تجاربهم الدينية في علاقتهم مع الإله. نشأ هذا الفهم التقليدي لتأليف الكتاب المقدس في النصوص نفسها. على سبيل المثال،  العديد من المقاطع تشير إلى موسى يكتب طبقًا لأوامر الله له (خروج 17: 14؛ 24: 4؛  34: 28؛ العدد 33: 2؛ تثنية 31: 9؛ 31: 22)، وكثير غيرها. وهناك الكثير من العبارات التي تأتي على ذكر “شريعة موسى” (على سبيل المثال، يشوع 8: 30-31؛ 2 ملوك  14: 6، عزرا 3: 2). أدت مثل هذه القرائن إلى تحديد موسى ككاتب أسفار التوراة، التي تُدعى أحيانًا “أسفار موسى الخمسة.” ويُفترض أن موسى عاش في الربع الأخير من القرن الثالث عشر ق.م.

نتناول كل من المجموعات الثلاث التي يتألف منها الكتاب المقدس العبري: التوراة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعهد والتثنية)؛ الأنبياء: الأنبياء الأولون (يشوع، والقضاة، وصموئيل، والملوك) والأنبياء الآخِرون (إشعيا وإرميا وحزقيال والإثنا عشر)؛ والمجموعة الثالثة، المكتوبات (المزامير، وأيوب، والأمثال،وراعوث، ونشيد الأنشاد،  والجامعة، ومراثي إرميا، وأستير، ودانيال، وعزرا- نحميا، وأخبار الأيام)

بخصوص المجموع الأولى، التوراة، وفقا للتقاليد الرابية، موسى هو من كَتَبَ كُتُبَ التوراة الخمسة، باستثناء الآيات الثمانية الأخيرة من سفر التثنية التي تصف وفاته. كان هذا اعتقاد معظم اليهود والمسيحيين حتى القرن السابع عشر، بداية علوم النقد التاريخي. بعد ذلك، ترك الذين أخذوا بالنظريات النقدية هذا الاعتقاد. لكن، ما يزال المحافظون منهم يأخذون بهذا الاعتقاد حتى أيامنا.

فيما يتعلق بالمجموعة الثانية، الأنبياء، الأنبياء الأولون، وفقا للتقاليد اليهودية التي يرجع تاريخها إلى القرن الثاني الميلادي على الأقل، مؤلفو أسفار الأنبياء الأولين هم أشخاص معروفون في إسرائيل القديمة:  مؤلّف سفر يشوع  هو يشوع نفسه، وومؤلّف سفر القضاة وسفر صموئيل هو صموئيل النبي (مع بعض المقاطع من قبل النبيين جاد وناثان)، في حين أن سفر الملوك كُتِبَ من قِبَل إرميا. أما الأنبياء الآخرون، فكل نبي كتب الكتاب المسمى باسمه.

بخصوص المجموعة الثالثة، المكتوبات، المزامير، ينسب التقليد عددًا من المزامير إلى داود، وإلى مناسبات خاصة من حياته، مزمور لسليمان، مزمور لموسى، وعدد من المزامير منسوبة لمؤلفين آخرين ومناسبات مختلفة مثل تنصيب الملك، الصعود إلى الهيكل، السبي وإلخ. بعض التقاليد تنسب سفر أيوب لموسى. ومعظم التقاليد تنسب الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد إلى سليمان. والتلموذ ينسب سفر راعوث لصموئيل. ينسب التقليد مراثي إرميا إلى النبي إرميا، وعزرا-نحميا إلى والأخبار إلى عزرا، ودانيال إلى النبي دانيال.

الكتب اليونانية (الأبكريفا أو القانونية الثانية) هي كتب متأخرة، لكتّاب مجهولين، والأسماء المطلقة عليها قد تكون أسماء مستعارة.

1/2. النظرية النقدية

تقول الدراسات الحديثة بأن العهد القديم مرّ بمراحل عديدة حتى وصل إلينا بحلّته الحالية، لكن من الصعب التعرّف على جميع هذه المراحل بدقة. والإجمال، يتفق العلماء على المراحل التالية:

  1. كانت المرحلة الأولى التعرّف على وجود تراثات دينية مختلفة في المعابد المنتشرة، وكان لكل معبد تراثه الخاص. أكثرية هذه التقاليد كانت شفوية، تُتلى في الممارسات الطقسية، ومنها النذر القليل مكتوب، لكن لا نملك أي آثار عنه.
  2. المرحلة الثانية ظهور أربع عائلات من التقاليد: التقليد اليهوهي الذي يستخدم اسم الإله “يهوه”، والتقليد الإلوهيمي الذي يستخدم اسم الإله إلوهيم، والتقليد الاشتراعي الذي يبدو وكأنه شريعة مكتوبة بصيغة الوعظ ولها مبادئ لاهوتية معينة، وأخيرًا التقليد الكهنوتي الذي يحتوي على الطقوس والذبائح ومسألة الطاهر والنجس.
  3. المرحلة الثالثة، وضع هذه التقاليد كتابة، وتم ذلك على أغلب الظن خلال الفترة الممتدة بين القرن التاسع والقرن الخامس ق.م. لا يُفهم من هذا أن هذه التقاليد كُتبت في صيغتها النهائية، بل خضعت بعد ذلك لمراجعات وإضافات مختلفة.
  4. المرحلة الرابعة، جمع هذه التقاليد الأربعة، ومراجعتها ودمجها في نص واحد هو “التوراة”. والتوراة هي قصة تكوّن شعب إسرائيل، وخروجه من مصر بقيادة موسى، وإقامة العهد من يهوه واستلام الشريعة على جبل سيناء، وتعليم الشريعة بشكل مواعظ ألقاها موسى في سهول موآب. تم عمل إعداد التوراة خلال القرين الخامس والرابع ق.م.
  5. المرحلة الخامسة، جمع تراث الأنبياء وتدوينه ومراجعته بحيث ظهرت مجموعة الانبياء، وتمت هذه العملية، على أغلب الظن، خلال القرن الرابع ق.م.
  6. المرحلة السادسة، جمع المكتوبات في ومراجعتها. تم هذا العمل، على أغلب الظن، بنهاية القرن الأول م.
  7. المرحلة السابعة، فصل الكلمات عن بعضها، لأن الكتابة كانت متصلة، وإدخال حركات التصويت. تم هذا، على أغلب الظن، في القرن السادس.

2. العهد الجديد

أما مسألة تكوّن العهد الجديد فهي أقل تعقيدًا، فلم تستغرق كتابته ومراجعته أكثر من نصف قرن (من سنة 50 حتى 100)، والعدد الأكبر من كُتّابه معروفون.

2/1. النظرية التقليدية

النظرية التقليدية هي بسيطة للغاية، فكاتب إنجيل متى هو متى الرسول، كاتب إنجيل مرقس هو يوحنا مرقس، وقد كتبه بمساعدة بطرس، إنجيل لوقا كتبه لوقا، وكتبه بمساعدة بولس، وإنجيل يوحنا كتبه يوحنا الرسول. علمًا بأن أيًا من الأناجيل لم يأتِ على ذكر كاتبه. ثم أعمال الرسل من أعمال لوقا مرافق بولس، ورسائل بولس الثلاث عشرة كاتبها بولس، وبعضهم يضيف إليها الرسالة إلى العبرانيين، وهناك رسائل أخرى بأسماء مؤلفيها (يعقوب وبطرس ويوحنا ويهوذا)؛ ويوحنا كاتب سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي.

2/2. النظرية النقدية

لقد تمت كتابة أسفار العهد الجديد بعد موت وقيامة المسيح بوقت طويل؛ وبعد فترة طويلة من شروع تلاميذه ورسله الأول بنشر “الخبر السار” (الإنجيل) وتأسيس الكنائس المحلية حيث مارسوا الوعظ والتعليم.

بعد وقت مرور وقت على عمل الرسل التبشيري، أخذت أخبار حياة يسوع وموته وقيامته وتعاليمه شكلاً أدبيًا دعاه الرسل “الخبر السار”، وهي ترجمة للكلمة اليونانية “إفانجليون” التي أصبحت باللفظ العربي “الإنجيل”. “الإنجيل” هو أولاً رسالة يسوع المسيح الخلاصية، وهذه الرسالة متضمَّنة في سيرة يسوع وتعاليمه، فأصبحت السيرة والتعاليم والرسالة واحد هو “الإنجيل”.

مرَّ تكوُّن العهد الجديد بالمراحل التالية:

  1. تكوّن التقليد الرسولي: لم يكتب يسوع شيئًا خلال حياته، ولا واحد من تلاميذه كتب له أو كتب عنه. وعندما شرع الرسل في نشر الإنجيل، كانت كل الأخبار عن يسوع في ذاكرتهم. وصار الخبر “التاريخي” عن يسوع يتفاعل مع خبراتهم الروحية. وكان الرسل يشاركون بعضهم بعضًا في ما يعرفون عن يسوع، وفي ما يختبرونه في خدمتهم لرسالته. ومن هذا ولد “التقليد الرسولي”. ومضت السنوات العشرون الأولى من عمر الكنيسة دون كتابة أي من أسفار العهد الجديد كما نعرفها اليوم. وكان “الإنجيل” يتناقل من مكان إلى آخر بالتواتر والأخبار الشفوية. غير أن النقد الكتابي يرى بأنه ظهرت كتابات قصيرة: قصص عن حياة يسوع ومعجزاته، قوانين إيمان مختصرة، أقوال مأثورة، قبل الشروع في كتابة أي سفر. وانتشرت هذه الكتابات القصيرة في أمكنة متعددة.
  2. تكوّن تقليد الرب: في الحقبة المبكرة من بدايات المسيحية، كان النص المرجعي في أمور الدين عند مسيحيي الجيل الأول يتمثل في العهد القديم، أي الكتاب المقدس العبري، لكن بترجمته السبعينية الرائجة على الرغم من أن اللغة المحكية كانت الآرامية، لكن اللغة اليونانية كانت ما زالت لغة الثقافة حتى ذلك الوقت. وسرعان ما ظهر مرجعًا آخر في وُضع في التداول في الأوساط الكنسية، وهو “تقليد الرب”، وكان يُطلق هذا الاسم على كل من التعليم الذي كان يسوع قد علمه خلال حياته (را 1كو 9: 14)، والتعليم الذي علمه الرسل بالسلطة المسلمة لهم بواسطة يسوع القائم من بين الأموات (را 2 كو 10: 8 و18). وكان لهذين المرجعين- العهد القديم و”تقليد الرب” قيمة القياس في كل ما يتعلق بأمور المعتقد والسلوك. وهذا “التقليد” لم يكن بعد مكتوبًا، فقد تناقلته ألسنة الحفاظ شفويًا مدة طويلة. ولم يشعر المسيحيون الأولون بضرورة تدوين كل ما علمه المسيح خلال حياته وعلمه الرسل إلا عندما صارت حياة الرسل والحفاظ على هذا التقليد مهددين بالخطر.
  3. تكوُّن رسائل بولس الرسول: كان بولس أحد أهم الذين اضطلعوا على “تعاليم المسيح” خلال حياته، والتقليد الرسولي الذي نما في الكنيسة قبل اهتدائه إلى المسيحية وتبحره في تعاليمها. إضافة إلى ذلك، كانت لبولس قراءته “المسيحية” للعهد القديم. وصار هذا الرسول الملهم خزان الفكر المسيحي الذي لم يكن قد دون بعد. وصار يصب هذا التعليم في عظاته وتعاليمه، وعليه كان يؤسس الكنائس في كل مكان.

ولما كان بولس يعتبر نفسه مسؤولاً عن الكنائس التي كان يؤسسها، بل تلك التي أسسها تلاميذه، كان عليه واجب العمل على تنمية هذه الكنائس في الإيمان عن بُعد. فضلاً عن مواجهة المسيحيين الجدد في هذه الكنائس ظروفًا طارئة لا يعرفون كيف يجب أن يتصرفوا فيها بطريقة منسجمة مع العقيدة المسيحية، فكانوا يرسلون إلى بولس، يسألونه في كثير من المسائل. وكعادة كل معلمي ذلك العصر، صار بولس يستعمل طريقة الرسائل، فكتب الكثير منها ووجهها إلى الكنائس، وكان يطلب أن تُقرأ رسائله في عدد من الكنائس غير تلك التي وجهت إليها. بل صارت الكنائس تتهافت على الاضطلاح على رسائل بولس التي كاتسبت سلطانًا رسوليًا، وأصبحت تتمتع بصفة المعيار في العقيدة والسلوك المسيحيين. إن عدد الرسائل التي تُنسب إلى بولس وحُفظت حتى أيامنا في كتاب العهد الجديد هو أربعة عشر رسالة إذا اعتبرنا أنه هو كاتب الرسالة إلى العبرانيين.

  1. تدوين تقليد “الرب” أي الإنجيل: عندما كانت الرسائل البولسية تُقرأ وتُنتشر وتتنقل بين الكنائس، لم يظهر شأن الأناجيل طوال هذه الفترة ظهورًا واضحًا. يجب الانتباه إلى أن الرسائل البولسية تتضمن الكثير الكثير من أقوال المسيح “الحرفية” وتعاليمه، لكنه من الصعب، بل من المستحيل الجزم في ما إذا كان بولس يأخذ هذه “الاقتباسات” عن كتاب مكتوب أم مما حفظ هو منها أم ما حفظه حفاظ آخرون.كما أن مؤلفات الكتبة المسيحيين الأقدمين تضمنت أقوالاً وتعاليم للمسيح، لكن عندنا نفس الاستحالة.

ومهما يكن من أمر، فحوالى منتصف القرن الثاني، ظهرت شهادات مكتوبة في كتابات المؤلفين المسيحيين القدماء بأن المسيحيين عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة، لكن لا نعرف كميتها وما هي الطريق التي سلكتها في انتقالها من تقليد شفوي إلى تقليد مدون. وهنا تدخل الدراسات الكتابية لتعطي رأيًا في هذا الموضوع. ويشير لوقا في بداية إنجيله بأنه اضطلع على هذا التقليد (لوقا 1: 1-4).

تُقسم الأناجيل إلى قسمين: الأناجيل الإزائية (المتشابهة)، أي متى ومرس ولوقا، وإنجيل يوحنا. يجمع الدارسون على أن إنجيل يوحنا يختلف عن الأناجيل الإزائيل في الأسلوب، واللاهوت وبعض المضمون. ويجمع دارسو العهد الجديد بأن إنجيل مرقس هو أول الأناجيل المكتوبة بين الأناجيل الإزائية، وقد كُتب بعد السنة 70 م.، كونه يحتوى على مواد خام لم تحظَ بالصقل والتهذيب كما في الأناجيل الأخرى. أما متى ولوقا، فقد اعتمدا على الرواية المرقسية وعلى تقاليد أخرى وكتبا في فترة لاحقة بعد كتابة مرقس بوقت قصير. يوحنا هو الحيد الذي عاش حتى نهاية القرن الأول تقريبًا وكتب إنجيله قبيل موته.

ويتكلم الدارسون اليوم عن مدارس لاهوتية- المدرسة المتاوية والمدرسة المرقسية، والمدرسة اللوقاوية، والمدرسة اليوحناوية- كانت وراء جمع وتحرير ومراجعة الأناجيل حتى وصلتنا إلى ما هي عليه اليوم. وقد تمت كل المراجعات في النصف الأول من القرن الثاني، وفي كل الأحوال، قبل نهاية القرن الثاني.

رابعًا: المواقف المختلفة من الوحي والكتاب المقدس

ننطلق هنا من التسليم بأن الكتاب الذي نتكلم عنه هو “كتاب مقدس”، ومرجع لكل ما يتعلق بالإيمان والسلوك. هذا يعني أنه كتاب موحى به من الله. لكن ماذا يعني بالضبط هذا التصريح الأخير: “موحى به من الله”؟ هل كل كلمة فيه جاءت من الله بشكل إملائي؟ أو كل كلمة كتبها الكاتب الأصلي جاءت بإلهام إلهي وبإرشاد روحي، أي الروح القدس جعل الكاتب يختار مفرداته؟ أم أن الوحي يغطي الفكرة والكاتب اختار مفرداته بحرية شخصية؟ إن مفهوم الوحي الذي يختاره إنسان يعود إلى اختيار هذا الإنسان لنظرية تكوّن الكتاب المقدس، فمن يأخذ بالنظرية التقليدية يكون توجهه نحو الوحي اللفظي، ومن يأخذ بالنظريات النقدية يأخذ منحى مفهوم الإلهام تاركًا للكاتب هامشًا كبيرًا من الحرية في التعبير أو الاقتباس من تراثات أخرى مع أو من دون قراءة جديدة.

يوجد بالإجمال ثلاث نظريات للوحي في الكتاب المقدس:

  1. الموقف الأصولي: هو كتاب موحى من الله حرفيًا، ويمثل فكر الله وإرادته في جميع أجزائه، وهو كلمة الله معنىً ومبنىً.
  2. الموقف النقدي: هو كتاب مُلهم لكن الكُتّاب عكسوا فيه معارفهم الشخصية إن كان لجهة اللغة أو التاريخ، أو العلم، أو الدين
  3. الموقف العلماني: هو كتاب من صناعة البشر المؤمنين والمستنيرين، وكل ما فيه يمثل فكر البشر عن الله وعلاقته مع خليقته.

يوجد بالإجمال ثلاث نظريات للوحي في الكتاب المقدس: الوحي اللفظي، والإلهام وكلام الله في التراث الديني

1. الوحي اللفظي

الوحي اللفظي هو الرأي القائل بأن كل كلمة في الكتاب المقدس هي كلمة الله ذاتها.ليست الأفكار وحدها من مصدر إلهي بل أيضًا الكلمات التي تجسد هذه الأفكار. ترتكز هذه النظرية على ما جاء في 2 تيموثاوس 3: 16-17″كل الكتاب هو موحى به من الله”، وخاصة الكلمة اليونانية  “ثيوبنيوستوس” التي تُرجمت “موحى” وهي تعني حرفيا “تنفس الله”. الكتاب هو “تنفس” من فم الله. فكل الكتاب هو “تنفس” الله وكلمات الكتاب المقدس كلها هي كلمات الله. وتقول النظرية بأن الله أعلن الأفكار للكُتّاب، والروح القدس أرشدهم إلى اختيار الكلمات التي استخدموها في التعبير عن الأفكار.

وقريب جدًا من هذه النظرية نظرية “الوحي الإملائي”، التي بموجبها الله هو المؤلف الحقيقي للكتاب المقدس وما الكُتّاب سوى “أمناء سر” تلقوا مادة الكتاب المقدس إملاءً فكتبوها وقدموها للشعب. وتستند هذه النظرية على بعض العبارات التي جاءت في الكتاب المقدس نفسه مثل: “اكتب…” (أ،ظر على سبيل المثال إرميا 30: 2) و”هكذا قال الرب” التي تأتي في أقوال الأنبياء”، وخاصة مشهد وحي التوراة لموسى على الجبل (أنظر خروج 19-31) وخاصة العبارة “ثم أعطى [الله] موسى ….لوحي الشهادة، لوحي حجر، مكتوبين بإصبع الله” (خروج 31: 18).

ينتج عن تبني هذه النظرية أن الكتاب المقدس معصوم عن الخطأ. وأن مادته صالحة لكل زمان ومكان. وأن الكتاب المقدس يحتوي على تاريخ البشرية منذ بدايتها مع خلق آدم وحواء،حتى نهايتها مع تدمير السماء والأرض وخلق السماء والأرض الجديدتين. وأن الكلام، عند التفسير، يجب أن يؤخذ على حرفيته، فقول الكتاب المقدس بأن الله خلق الكون في ستة أيام (تكوين 1-2) يعني هي ستة أيام حرفية. وأن التواريخ المحددة هي صحيحة ودقيقة، فعمر الإنسان على الأرض حوالي ستة آلاف سنة. وكل العجائب والمعجزات التي يرويها الكتاب المقدس هي صحيحة ودقيقة: فالحية تكلمت (تكوين 3)، وسارة رزقت بولد في سن التسعين سنة وزوجها إبراهيم في سن المائة (تكوين 21)، والضربات العشر على مصر حدثت بفعل إلهي (خروج 7-11)، والشعب العبراني سار على الماء في البحر الأحمر ولم يغرق (خروج 16: 21)، وأمطرت السماء خبزًا (خروج 16: 2)، وأتان بلعام تكلمت (عدد 22: 28)، ومياه الأردن توقفت (يشوع 3: 9-17)، وحوادث الحروب والإبادات التي حدثت بأمر الله هي دقيقة وصحيحة والله هو الذي أمر بها، وسقطت أسوار أريحا بمجرد الضرب بالأبواق (يشوع 6)، ويشوع أوقف الشمس فلم تتقدم إلى الغروب، (مع أن الشمس لا تدور علميًا) (يشوع 10)، والله أرجع الزمن إلى الوراء يومًا كاملاً في أيام النبي إشعيا والملك حزقيا (2 ملوك 20)، ويونان مكث في بطن الحوت ثلاثة أيام وبقي حيًا (يونان 2)، وغيرها وغيرها من الخوارق.

2. الإلهام

بموجب هذه النظرية يجب أن نميّز بين مرحلتين في الوحي: مرحلة الإلهام، وهي عملية تكوين الرسالة الإلهية في ذهن ووجدان المُلهَم وإرشاده للقيام بعمل ما، أو للتعبير عن أمر ما. والمرحلة الثانية هي مرحلة توصيل الرسالة. فالإلهام عمل يقوم به الله، وتوصيل الرسلة عمل يقوم به الإنسان المُلهَم. هذا الإنسان المُلهَم سيُعبّر عن الرسالة التي أُلهِمت إليه أو تكونت في ذهنه بواسطة تصورات وكلمات يصوغها بمعارفه الثقافية والعلمية والحضارية. الرسالة إلهية لا تتغير، لكن الوسيلة التي تحمل الرسالة تتغيير لأنها خاضعة لتحولات الثقافة والحضارة ومعاني الكلمات.  الكتاب المقدس، كوحي إلهي، هو إذن نتاج مشاركة بين الله والإنسان، وشكل الرسالة خاضع لتطور الفكر الديني والحضارة البشرية.

الكتاب المقدس هو “كلمة الله” التي أرسلها للبشر. وليس المقصود بـ”الكلمة” المعنى الألسني، أي وحدة لغوية تشكل رمزًا له معنى، بل هي وسيلة تبليغية، تعبيرية تجسد إرادة قائلها. وبهذا المعنى “الخيلقة” كلمة قالها الله بممارسته لعمل الخلق. الوحي هو الطريقة التي استخدمها الله لإيصال كلمته لشعبه. والكلمة الموحى بها مكونة من عنصرين: الجوهر (المضمون، الرسالة، المعنى) والشكل. الجوهر من عند الله، والشكل وسيلة التبليغ المحدودة في الزمان والمكان (شخص، كلام، عمل، رؤيا، إلخ.).

لنأخذ مثلاً: عمل الله في الخلق. العمل بحد ذاته عمل الله الذي تم مع بداية التاريخ، وهو “كلمة الله”، تعبير الله عن نفسه، ويحمل العمل رسالة خلاصية هي أن الله أنقذ الكون من “العدمية”، وهذا خلاص. وأتى يوماً أحد الكتاب الملهمين مكلفاً من الله، وصاغ لنا، بالروح القدس، خبر الخلق بصياغة أدبية مستقاة من الحضارة التي كان يعيش فيها الكاتب؛ أو اختار نصًا كان موجودًا في حضارته وقرأه قراءة جديدة.

وبهذا المفهوم للوحي، يصبح الكتاب المقدس شهادة لعمل الله في التاريخ، وقد جاءت هذه الشهادة مصبوغة بالفكر الديني أو اللاهوتي للجماعة التي كانت وراء إنتاجها.

وبالخلاصة نقول: إن نصوص الكتاب المقدس  هي ثمرة جهد مشترك بين الله والإنسان، فيه من الطابع الإلهي، بقدر ما فيه من الطابع البشري. وبهذا، تصبح “كلمة الله” المكتوبة هذه، صورة مصغرة لكلمة الله الحية، يسوع المسيح، الكامن فيه الألوهة والبشرية وهو التبليغ الأبلغ والأكمل، والأشمل لعمل الله لخلاص البشر. وما الكلمة المكتوبة إلا شهادة لهذا الكلمة الحي.

3. كلام الله في التراث الديني

بموجب هذه النظرة، الكتاب المقدس هو أنطولوجيا التراث الديني لبني إسرائيل في جميع مراحل تكوّنهم كشعب. ما هي المراحل التي مر بها بنو إسرائيل ليصبحوا “شعبًا”، أو وحدة اجتماعية موحدة؟ وماذا يتضمن هذا التراث الديني؟

إن موضوع تكوّن بنو إسرائيل كشعب موضوع شائك اختلف فيه العلماء كثيرًا. فهناك النظرة التقليدية المستقاة من رواية التوراة، وهناك نظريات أخرى مؤسسة على استخدام النقد التاريخي في قراءة النصوص التوراتية. يعتبر المحافظون، الذين يرفضون القراءة النقدية للكتاب المقدس، يعتبرون أن الرواية التقليدية في التوراة تاريخية وصحيحة. فأصل الشعب الإسرائيلي هو إبراهيم، الذي ولد إسحق، وهذا الأخير ولد يعقوب، ويعقوب هو الذي دُعي إسرائيل، وله اثنا عشر ولدًا، هاجروا إلى مصر، وفي مصر أصبح بنو إسرائيل شعبًا بتحررهم من العبودية وبخروجهم من مصر إلى الصحراء بقيادة موسى. وفي الصحراء، استلم موسى الشريعة من الله على جبل حوريب (سيناء) وقطع الله لهم عهدًا بأن يعطيهم الأرض ويجعلهم أمة كبيرة. ودخلوا أرض كنعان بقيادة يشوع بن نون، ثم تراجعوا دينيًا في عصر القضاة، إلى أن أسسوا مملكة ملك عليها شاول، ثم داود، ثم سليمان. وبعد موته انقسم المملكة إلى مملكتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب. وانتهت المملكتان بالسبي. ولم يعد من السبي إلا قسم من سكان يهوذا. وكان الله قد أرسل للشعب أنبياء يحذرون الشعب من مغبة عبادة الأوثان، ويدعونه إلى عبادة الإله يهوه وحده. وبموجب هذه النظرية، التراث الديني هو أن الله تكلم بصورة مباشرة إلى بعض الناس، مثل إبراهيم وموسى والأنبياء، وأعطاهم الشريعة، وحال الشعب تطبيق الشريعة وممارسة الطقوس بموجب الشريعة. هذا هو التراث الديني، وهو موحد ومتطابق وينم عن فكر ديني موحد في كل المراحل. وهكذا نعود هنا إلى نظرية الوحي اللفظي.

أما العلماء الذين يقبلون مدرسة النقد التاريخي فيرفضون القصة التقليدية مركبة لهدف لاهوتي ولا يمكن أن نعتبرها تاريخًا. ويعتقد هؤلاء، بشكل عام، بأن شعب إسرائيل خرج من تجمع قبائل سامية عاشت معًا في الشرق الأدنى، ثم سكنت متجاورة في جنوب سوريا الطبيعية، ما بين البحر المتوسط ونهر الأردن، وتجاوزت حدودها في بعض الأحيان إلى الأراضي الوقعة على الضفة الشرقية لنهر الأردن. وكانت هذه المنطقة تُسمى بلاد كنعان. وسفر القضاة يصف لنا هذه الحالة القبلية.

فهناك نظرية العلماء الألمان، أمثال مارتن نوث وألبرخت ألت، التي تقول بأن الشعب الإسرائيلي تكوّن من البدو الرحل الذين كانوا ييعملون كمرتزقة وعُرفوا باسم “العابيرو” وورد اسمهم في رسائل تل العمارنة؛ أو “الشاصو” في الكتابات المصرية، وهم صحراويون من أدوم أو جبل سعير، تركوا حياة البداوة، بسبب الفقر، وتحولوا إلى حياة حضرية، وسكنوا السهوب الواقعة على مرتفعات يهوذا. اختلط هؤلاء بجماعات كنعانية أخرى كانت تقيم في الداخل، واعتنقوا معًا عبادة الإله يهوه الذي جلبوه من جبل سعير.[2] الرأي الأكاديمي السائد اليوم هو أن الشعب الإسرائيلي القديم تكوّن من خليط من الشعوب، في الغالب من السكان الأصليين في كنعان، وانضم إليهم بعض القادمين من مصر،[3]  والبدو الذين تغلغلوا من الشرق والجنوب الشرقي[4]،  بما في ذلك جماعات العابيرو والشوسو.[5] ويعتقد إسرائيل فلكنشتاين أن بني إسرائيل تكوّنوا من أناس كنعانيين قاموا بثورات في المدن الكنعانية وخرجوا منها ليسكنوا السفوح الجبلية ويؤسسوا فيها قرى ومدنًا.[6] أشدد على إظهار هذه الحقبة التأسيسية لأُظهر مصدر المفاهيم الدينية الكنعانية والبدوية التي نجدها في الديانة الإسرائيلية القديمة مع جملة التراث الديني المجموع.

ثم أن هذا الشعب المتكوِّن من خليط شعوب في الشرق الأدنى القديم، وجلب معه مفاهيم دينية مختلفة، كوّن، في وقت من الأوقات، شعبًا دُعي إسرائيل، ومملكة بالاسم نفسه. والمملكة انقسمت، في الربع الأخير من القرن العاشر ق.م.،  إلى مملكتين، المملكة الشمالية واسمها إسرائيل، والمملكة الجنوبية واسمها يهوذا. بقيت إسرائيل تتخبط في العبادات الكنعانية، أما يهوذا فصارت تتنقى من هذه الديانات تدريجيًا وصولاً إلى البقاء على عبادة الإله يهوه وحده. انتهت مملكة إسرائيل بالاحتلال الأشوري ونفي الشعب إلى بلاد الرافدين سنة 722 ق.م. ومملكة يهوذا بالاحتلال الكلداني ونفي الشعب إلى بابل سنة 586 ق.م. وفي المنفى اختلط شعب إسرائيل بشعوب بلاد الرافدين، وبعدهم بالفرس، وتأثروا بديانات هذه الشعوب وقرأوا أساطيرهم الدينية على ضوء عبادة الإله يهوه، واقتبسوا الكثير منها في كتبهم المقدسة. وبهذا الشكل تكوّن التراث الديني الإسرائيلي، وثم اليهودي. لكن الله لم يكن بعيدًا عن مواكبة مسيرتهم الدينية.

التراث الديني هو الفكر الديني الناتج عن تَفَكُّر الشعب في الإلهيات وتعبيره عن هذا الفكر بممارسة الطقوس في كل مرحلة من مراحل تكوّنه. لقد تفكّر بنو إسرائيل، في كل مرحلة من مراحل تكوِّنهم، في مسائل الكون والوجود والإنسان والإله ومصدر الموجودات ومستقبل الإنسان والوجود، والموت وما يليه، وأخرجوا فكرًا دينيًا متأثر بالديانات التي عاصروها واختلطوا بها، ودوَّنوا هذا في كتبهم المقدسة. ولم يكن الله الحقيقي بعيدًا عن هذه المسيرة، بل كان يُرشِّدهم ليصل بهم إلى التوحيد وثم إلى التجريد، وخاصة إلى بناء علاقة شخصية معه. كان هذا التراث الديني ينمو ويتطوّر مترقيًا من الأدنى إلى الأرقى، ومن المادي إلى المجرد. ووصل الله بالبشرية، من خلال تراثاتهم الدينية، إلى الإعلان الأبلغ والأسمى في يسوع المسيح. وخلاصة الأمر هو أن الله أرشد الشعب الإسرائيلي القديم، وغيره من الشعوب، إلى الإعلان عن نفسه بالمسيح من خلال مسيراتهم الدينية المختلفة حيث كان الله يرافقهم ويُرَشِّد مسيرتهم للوصول إلى الإعلان الحقيقي عن نفسه بالمسيح.

وبناء على ما تقدم، يُعتبر الكتاب المقدس في الكنيسة التراث الديني الذي جمعه اليهود في العهد القديم، والمسيحيون في العهد الجديد، وأعطته الكنيسة صفة المرجعية (القانونية)، وهو، بين كل الوسائل الأخرى، الوسيلة الرئيسة التي يتكلم بها الله لنا اليوم، أو يصل بها إلينا كلام الله. وهذه يجب أن تكون نظرة كل مسيحي إلى الكتاب المقدس

خامسًا: قراءات الكتاب المقدس المتعددة

أما الآن وقد عرضنا العوامل التي تؤثر في قراءة الكتاب المقدس وفهمه، ومقاربات الكتاب المقدس المختلفة، وتكلمنا بإسهاب عن عاملين أساسين هما نظرية تكوّن الكتاب المقدس ونظرية الوحي، أصبح بإمكاننا أن نتكلم عن القراءات المختلفة للكتاب المقدس.

توجد قاعدة عامة لكن لا تخلو من الاستثناء وهي أن من يأخذ بالنظرية التقليدية لتكوّن الكتاب المقدس، ينشأ عنده منحى طبيعي للاعتقاد بنظرية الوحي اللفظي، ومن يُسلّم إيديولوجيًا أن الوحي يجب أن يكون لفظيًا ومعصومًا، هو مُهيَّأ فلسفيًا ونفسيًا للاعتقاد بالنظرية التقليدية لتكوّن الكتاب المقدس؛ وهذا القارئ مهيَّأ ليقرأ الكتاب المقدس بطريقة حرفية. ومن يأخذ بالنظرية النقدية لتكوّن الكتاب المقدس يأخذ منحى الاعتقاد بالوحي كإلهام الله في كلام البشر، فيعمد إلى قراءة الكتاب المقدس بطرائق متحررة من الحرفية القاتلة.

السؤال الذي نعالجه هنا هو: كيف يمكننا أن نقرأ الكتاب المقدس؟ يمكن أن يكون هناك العديد من الإجابات على هذا السؤال، فأنواع القراءات كثيرة ومعقّدة،اعتمادًا على الغرض من القراءة، ونوع المعلومات التي نأمل أن نجدها، وعلاقتنا مع الجماعة التي تعتبر الكتاب المقدس وثيقتها التأسيسية.

هنا، لا بد من الإتيان على ذكر الوثيقة المسماة “تفسير الكتاب المقدس في الكنيسة” (الكاثوليكية) التي أعدتها اللجنة البيبلية الحبرية وقدمتها إلى البابا يوحنا بولس الثاني في 23 نيسان/أبريل 1993[7]؛ والإرشاد الرسولي، كلام الله، الذي أطلقه البابا بندكتوس السادس عشر عقب سينودس الأساقفة المخصص لهذه الغاية.[8] هاتان الوثيقتان تتضمنان مادة دسمة عن الموضوع الذي نبحث فيه في هذه الورقة. وعلى القارئ المتخصص الذهاب إلهما من أجل التعمق والاستفاضة بالموضوع. ومن أجل الوضوح، أختصر القراءات بعدد محدود، أُعَرِّفُ بها متوقفًا عند تقنيات القراءة لكل منها ومقدمًا أمثلة توضيحية.

1. القراءة الحرفية

القراءة الحرفية للكتاب المقدس هي قراءته وفهمه بحدود معنى الكلمات في المعاجم وقواعد النحو والصرف للغة الأصلية واللغة واللغة المترجم إليها. بموجب هذه القراءة، المعنى الحرفي للصور الكلامية له الأفضلية في عملية الفهم والتفسير. ويتم اللجوء إلى التفسير المجازي فقط عندما تعجز الصور الكلامية الحرفية أن يؤدي معنىً مقبولاً.

يمكن أن يشير المصطلح أيضًا إلى الأسلوب النحوي التاريخي في القراءة، وهي تقنية هرمينوطيقية تسعى إلى كشف معنى النص من خلال الأخذ في الاعتبار ليس فقط الكلمات النحوية، ولكن أيضا الجوانب التركيبية، والخلفية الثقافية والتاريخية، والنوع الأدبي والأسلوب بالبلاغي. بهذه الطريقة، يؤكد القارئ على الجانب اللغوي لكلمات النص دون إنكار أهمية الجوانب الأخرى  مثل النوع الأدبي (مَثَل، قصة، تأريخ، رؤيا، إلخ) والأسلوب البلاغي، أو الصور الكلامية (الرمزية، والتشبيه، أو الاستعارة، والتورية، إلخ) داخل النص.

يعتقد الحرفيون الكتابيون أنه، ما لم يكن النص استعارة، شعرًا، أو أي جنس أدبي آخر، باعتراف الكاتب نفسه، يجب أن يُفسر الكتاب المقدس بطريقة حرفية كما وضعه الكاتب. يُفسر الحَرْفيّون نصوصًا مثل قصة الخلق، وقصة الطوفان وفلك نوح، والأعمار الطويلة، غير الطبيعية، لبعض الآباء التي أتت في سلاسل النسب، بمعناها البسيط، الحرفي التاريخي، وكذلك الروايات المتعلقة بتاريخ إسرائيل القديمة وتدخل الله المعجزي في التاريخ، وعجائب المسيح.[9] ولا ينكر الحرفيون أن أجناسًا أدبية مثل الأمثال والاستعارة والتصوير حاضرة في الكتاب المقدس، لكن يلجأون بالأحرى إلى تفسير سياقي مؤسس على القصد الظاهر للمؤلف.[10]

إن تطبيق طريقة القراءة الحرفية على نص معين من قِبَل عدد من القُرّاء لا يقود بالضرورة إلى الفهم نفسه، بل يُضيّق مساحة الخلاف على التفسير.

نجد هذه الطريقة من القراءة مطبقة بكثرة وبصرامة في الأوساط اليهودية والمسيحية الأصولية، لذلك دُعيت في بعض الأدبيات “القراءة الأصولية”. في بعض الأحيان، يشير الإنجيليون الأصوليون إلى أنفسهم على أنهم “حرفيون” أو “كتابيون حرفيون”. ويستخدم علماء الاجتماع أيضا هذا المصطلح في إشارة إلى المعتقدات المسيحية المحافظة التي لا تشمل الحرفية فحسب، بل أيضا العصمة. ويستخدم المسيحيون واليهود والعلمانيون الليبراليون مصطلح “الحرفية ” في كثير من الأحيان بشكل سخري للإشارة إلى أناس ضيقي الأفق ومتزمتين.

لهذه القراءة تاريخ طويل في التقاليد الهرمينوطيقية اليهودية والمسيحية للكتاب المقدس. ففي التقاليد اليهودية، كانت الكلمة المكتوبة، التي كانت تحظى بتقدير عالٍ، تمثل القناة الواصلة إلى عقل الله. والمدرسة اليهودية الرابية المتأخرة كانت تشجع البحوث في الديانات التي تعتمد نصوصًا مكتوبة[11]، وتوصف على أنها ديانات كتابية. اليهودية التي انطلق منها المسيحيون الأوئل كانت ديانة كتابية، فالنص هو المعيار، وله الحكم الأخير. من هنا أتت أهمية “الكلمة” والتشديد عليها. بعد انطلاق المسيحية، سرعان ما أصبحت “مسيحيات” متنوعة ومتنافرة بسبب تعدد المراجع المكتوبة. لذلك عاد آباء الكنيسة إلى العادات اليهودية وثبتوا نصًا معيارًا للكتاب المقدس، وأصبحت المسيحية ديانة كتابية. جاء الإسلام بالعقلية نفسها التي أخذها عن اليهودية، فـ”الكلمة” محاطة بحالة من القدسية ويجب أن تُفسَّر بمبادئ لغوية صارمة. إن تشدد الإسلام في الحرفية زاد المسيحيين حرفية. وبقيت القراءة الحرفية للكتاب المقدس مطبقة، بل هي القاعدة حتى بزوغ عصر النقد التاريخي والتحليل الأدبي وصياغة طرائق أخرى بديلة لقراءة النص المقدس. لكن، وحتى أيامنا، ما زالت هذه القراءة الحرفية الصارمة للنص المقدس تُطبق في الأوساط اليهودية والمسيحية الأصولية.

ثلاثة أحداث حفزت القراءة الحرفية: الأول، ظهور الإسلام، كما رأينا أعلاه وبروز عقيدة التنزيل كمصدر للقرآن الكريم، ما دفع بالمسيحيين إلى استعمال الإيديولوجيا نفسها للدفاع عن صحة الكتاب المقدس. والثاني، اكتشاف الطباعة، ومعه أصبحت النصوص متقنة والمحافظة على حرفيتها أسهل، وأصبحت النسخ متوفرة بكثرة بحيث يمكن أن يكون لكل فرد نسخته من الكتاب المقدس كاملاً، ما جعل الناس يقدسون الحرف ويسعون للمحافظة على صحته.[12] الحدث الثالث هو اكتشاف العلوم البحتة،[13] حيث أن حلول مسائلها تتطلب أجوبة محددة لا مجال فيها لأجوبة تقريبية، فالجواب إما صح أو خطأ ولا مساحة رمادية. ويرى الاختصاصيون بالعلوم أن هذا يجب أن ينطبق على الكتاب المقدس حيث يجب أن توجد حقيقة واحدة وتفسير واحد لكل نص، والتفسير الأسهل الذي يأتي بمعنى واحد هو التفسير الحرفي.

قد تصلح القراءة الحرفية للكتاب المقدس من أجل درس بعض النصوص السردية أو الطقسية أو التاريخية بهدف دراسة تاريخية أو جغرافية حيث تساعدنا هذه القراءة على التعرف إلى الأماكن والعادات والطقوس والأشخاص. لكنها لا تنسجم مع مبادئ النقد الأدبي وقواعد علم الألسنية وعلم المعاني المتعارف عليها عامة. وقد تضعنا هذه القراءة في مواجهة مع العلم والتاريخ. فمثلاً، بموجب هذه القراءة، الأرض مسطحة، لها أعمدة، ولا تتحرك (مز 93: 1؛ 96: 10؛ 1صم 2: 8؛ أي 9: 6). والحيوانات الأسطورية الضخمة تحرس الحدود البحرية (أي 41؛ مز 104: 26).

2. القراءة النقدية

القراءة النقدية للكتاب المقدس هي القراءة التي يستخدم فيها القارء علوم النقد التاريخي والنقد الأدبي لاستخراج معنى النص. ويمارس هذه القراءة عمومًا الذين يأخذون بنظريات النقد التاريخي والنقد الأدبي لتكوّن نصوص الكتاب المقدس.

تهدف القراءة النقدية لتحقيق هدفين، أولهما أساس والآخر ثانوي. الهدف الأساسي هو اكتشاف المعنى البدائي أو الأصلي للنص ومعناه الحرفي الواقعي عند كتابة النص، هذا ما يُسمى في علم المعاني  “sensus literalis historicus”. ويسعى الهدف الثانوي إلى إعادة بناء الحالة التاريخية للمؤلف والمتلقين للنص بهدف محاولة التعرّف على القصد المبيَّت للمؤلف، وفهم المتلقين في السياق الثقافي والحالة النفسية لكتابة النص . ويمكن تحقيق ذلك بمحاولة إعادة بناء الطبيعة الحقيقية للأحداث التي يصفها النص وكذلك الحالة النفسية والاجتماعية للكاتب وللمتلقين. قد يكون النص القديم أيضا بمثابة وثيقة قانونية، أو سجل، أو مصدر لإعادة بناء الماضي القديم، والتي يمكن أيضا أن تُسْتَخدم كمصدر مهم لمعلومات يفيد منها الناقد التاريخي. وفي حال كان غرض القارئ التعرّف على الحضارة الإسرائيلية القديمة، ، فإن الناقد التاريخي سيكون، بقراءته، قادرًا على تفسير الأدب إسرائيلي القديم،  وفهم تاريخ إسرائيل فهمًا موضوعيًا.

القراءة النقدية التاريخية كانت قد بدأت مع آباء الكنيسة، فأوريجانس كان يقارن النصوص بعدة لغات وبذلك كان يستخلص المعنى. لكن مع دخول الإسلام والتشديد على الحرفية، انقطع النقد التاريخي ليعود بقواعد جديدة في القرن السابع عشر.

بدأت القراءة النقدية مع بدايات علوم النقد التاريخي في القرن السابع عشر؛ ومع تطور علوم النقد البيبلي، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، اكتسبت القراءة النقدية أهمية وخاصة في الأوساط العلمية والأكاديمية. ويعتقد محللون من أصحاب الاختصاص بأن إيديولوجية القراءة النقدية متجذرة في أيديولوجية الإصلاح البروتستانتي، حيث أن نهجها في الدراسات البيبلية كان متحررًا من تأثير التفسير التقليدي والسلطة الكنسية.[14] وحيثما كان التحقيق التاريخي غير متاح، كان النقد التاريخي قائما على التفسير الفلسفي واللاهوتي. ومع كل قرن من الزمان، أصبح النقد التاريخي يتفرّع إلى منهجيات مختلفة، أصبحت حقولاً علمية تستخدم اليوم: مثل نقد المصادر، نقد الشكل، النقد التحريري، نقد التقليد، نقد القانون، نقد النصوص، وغيرها من والمنهجيات ذات الصلة.[15]

وبفضل القراءة النقدية أصبح بإمكاننا أن نعرف أن قصة إبراهيم، الموضوعة في بداية الكتاب المقدس، تعود إلى تاريخ متأخر؛ وأن مواد كثيرة من سفر اللاويين، الموضوع في سياق الشريعة الموسوية (القرن الثالث عشر ق.م.) يعود بالحقيقة إلى زمن الهيكل الثاني (القرنان الخامس والرابع ق.م.)؛ وأن رسائل بولس سبقت كتابة الأناجيل.

غني عن القول أن القراءة النقدية هي نقيض القراءة الحرفية. فهذه تفرض أن مصدر المعلومات هو الله، والله لا يتغيّر عبر العصور ولا تختلف أفكاره باختلاف الثقافات. لذلك، توجد حقيقة واحدة، وتفسير واحد لكل نص، وفكر ديني واحد في كل الكتاب المقدس، وهذا الفكر لا يتأثر بالثقافات المتعددة والظروف التاريخية. أما القراءة النقدية فتفترض أن مصدر المعلومات هو الإنسان، والفكر البشري يختلف من ثافة إلى أخرى ومن جيل إلى آخر.

باعتقادنا، الكتاب المقدس هو كلام بشري عن الله، شهادة لأعمال الله في التاريخ، وبالنظر إلى تراكم مواده عبر الزمن والأجيال والثقافات، فإجادة العلوم النقدية تمكن القارئ من إجادة القراءة النقدية؛ والقراءة النقدية هي التي تقود القارئ إلى التفسير الصحيح، والمعنى التاريخي الواقعي للنص، وهذا هو المعنى الصحيح.

نتوقف عند نوعين من القراءات النقدية: القراءة الدياكرونية، والقراءة السينكرونية

2/1. القراءة الدياكرونية

كلمة “دياكرونية” تعريب لكلمة يونانية مركبة من كلمتين: “دِيا” (خلال) و”كرونوس” (تاريخ). هي إذًا قراءة عبر التاريخ. يدرس القارئ مثلاً صورة الله في نصوص العهد القديم، فيفحص كيف صوّر الكتّاب الله في مختلف الحقبات الزمنية من تاريخ إسرائيل الديني. فيلاحظ كيف أن هذه الصورة تتغيير مع تقدم الزمن وتطور الفكر الديني في إسرائيل القديمة.

من أجل الوصول إلى هذه القراءة، يلزم القارئ أن يدرس النصوص لكي يتمكن من تحديد شكلها الأدبي وأسلوبها الأدبي ومصادرها وتاريخ كتابتها (تأليفها) وشكلها الاستعمالي وتحريرها وأماكن تواجدها في القانون، وسياقات تواجدها والتقاليد التي حيكت حولها. القراءة الدياكرونية يلزمها إذًا أن يكون القارئ ملمًا بعلوم النقد التاريخي والأدبي كلها، وبتاريخ إسرائيل الديني والاجتماعي- كما أعيد تركيبه بطريقة “دياكرونية”- إذا كان النص من العهد القديم؛ أو بتاريخ نشأة النصوص المسيحية بمواكبة تقدم الكنيسة، إذا كان النص من العهد الجديد.

بالقراءة الدياكرونية، يرى القارئ النص الكتابي كجزء من عملية تاريخية ويطرح أسئلة حول الأحداث التاريخية التي أدت إلى كتاباته أو التي طبعت الزمن الذي كُتِبَ النص به بطابع معين. ويقارن القارئ النص الذي يعالجه بنصوص تعالج المواضيع نفسها وكُتبت في أحداث وأوقات سابقة أو لاحقة. وينتج عن هذه المقارنة معطيات تُساعد في تسليط الضوء على بعض الأمور الغامضة في النص.

القارئ الدياكروني يتعامل مع الكتاب المقدس كأي كتاب قديم تجمعت مواده عبر زمن طويل تعددت فيه الحضارات وتطورت، وواختلفت العادات وتبدلت، وعبر عدد من الأجيال تطورت مفاهيمهم الدينية من جيل إلى آخر. حيث نجد أن المفاهيم الدينية تخلتف بين جيل وجيل، وبين حقبة وأخرى؛ والمواقف الدينية والأخلاقية حيال الأحداث تختلف باختلاف الأجيال والثقافات.

إن أساس القراءة الدياكرونية هي، كما قلنا، إلمام القارئ بعلوم النقد. وبقدر ما يكون التحليل النقدي صحيحًا، بقدر ما يقترب القارئ من التفسير الصحيح للنص، وكل خطأ في تلك يؤثر سلبًا على التفسير.

2/2. القراءة السينكرونية

“سينكرونية” تعريب لكلمة يونانية مركبة: “سين” (مع) و”كرونوس” (الزمن)، هي إذا قراءة “مع الزمن” أو متزامنة” (مع تاريخ كتابة النص). القراءة السينكرونية هي قراءة النص في تاريخ كتابته من دون التطرق إلى تاريخ تكوّن النص والمراحل التي مر بها، أو دراسة موضوع النص عبر الزمن وفي أحداث مختلفة حدثت في سياقات وأزمنة مختلفة. ولإتمام قراءة سينكرونية جيدة، قد يحتاج القارئ ليسأل عن قِيَم المجتمع الذي كُتِبَ فيه النص، ولينظر إلى نصوص أخرى مكتوبة في نفس الفترة الزمنية وفي نفس المجتمع ليرى إذا كانت هذه تستطيع أن تُسلط الضوء الشكل الاستعمالي والنوع الأدبي الذي يمثله النص. قد يقارن القارئ مستخدم القراءة السينكرونية أيضا الفكر المعبر عنه في النص المقروء مع ما تم التعبير عنه في وثائق أخرى مكتوبة في نفس الفترة لمعرفة ما إذا كان النص الكتابي يعكس وجهات النظر التي كانت سائدة أو معروفة في ذلك الوقت أو إذا كان يتحدى تلك المنظورات.

3. القراءة الطائفية

يعتقد اليهود بأن الكتاب المقدس العبري وحي إلهي، ويعتقد المسيحيون بأن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وحي إلهي. لكن في كلٍّ من اليهودية والمسيحية طوائف عديدة، ولكل منها نظرتها الخاصة إلى الكتاب المقدس والوحي، ومسلماتها التفسيرية حيال بعض النصوص المفتاحية.

القراءة الطائفية هي قراءة مؤسسة على خلفية نظرة الظائفة، التي ينتمي إليها القارئ، للكتاب المقدس، وموقفها من الوحي، وتفسيرها المطلق لبعض نصوصه المفتاحية.

إن إيمان القارئ أمر بالغ الأهمية في إنتاج التأثير المطلوب للقراءة. فالقارئ ينطلق من مسلمات الطائفة التي ينتمي إليها، ونظرتها إلى الوحي وإلى بعض النصوص المفتاحية والتفسير الذي تعتمده. نتوقف هنا عند القراءة اليهودية للقانون العبري، القراءة المسيحية للكتاب المقدس.

3/1. القراءة اليهودية

لا يعترف اليهود بأن يسوع المسيح، الذي يؤمن به المسيحيون، هو المسيح المنتظر، وبالتالي لا يؤمنون بالعهد الجديد. فالنسبة لهم المشيَّح لم يأتِ بعد، وهم بانتظاره. هذا ما يجعل لقراءتهم للقانون العبري طابعها الخاص.

يصنف اليهود الأجزاء الثلاثة للكتاب المقدس العبري من حيث الأهمية، فالتوراة تأتي بالدرجة الأولى، وثم الأنبياء، وأخيرًا المكتوبات. ولكل جزء طريقته الخاصة من حيث القراءة والفهم. وهناك نصوص تُقرأ في مناسبات خاصة.

قراءة الكتاب المقدس العبري وتفسيره محكومة بتفاسير الآباء التقليدية المتراكمة (مدراشيم) والتي نجدها في التلموذ. فالتلموذ عبارة عن المشنا، التي هي شروحات الآباء لأسفار التوراة، والجمارا، وهي شروحات للمشنا. لذلك، القارئ اليهودي محكوم بهذا الكم الهائل من التفاسير.

في النهج اليهودي التقليدي لقراءة الكتاب المقدس، يصبح النص يعيش مع أجيال وأجيال من التفاسير وطبقات من الفهم. إذا شبهنا القراءة اليهودية بخريطة طبوغرافية فإننا نراها مليئة بالجبال والتلال والوديان والسهول.

يطبق اليهود نهج قراءة التلموذ على قراءة كتابهم المقدس. يُقسم الأدب التلمودي إلى نوعين: الأخلاقيات (“هالاخاه” = قواعد السلوك) والتعليم بطريقة الوعظ والقصص (“هجاده” الشرح). إن الهجاده لا تقل قيمة عن الهالاخاه حتى لو لم يستطع المرء أن يتخذ خطوات عملية محددة منسجمة مع هذه القواعد. إن الهجاده ترسم الطريقة التي ننظر بها إلى العالم وكيف نحقق أنفسنا الأخلاقية. وبالمثل، هناك أوقات، عند قراءة الكتاب المقدس بشكل ثابت، من دون ثراء التفاسير، يمكن أن يبلغ القارئ الخلقية اليهودية يتمكن من تأطير المجتمع الذي يعيش فيه. ذلك لأن الرؤية التلموذية مطبوعة فيه وتتحكم بقراءته.

كتب الحاخام سامسون رفائيل هيرش (1808-1888) في عمله، الرسائل التسع عشرة:

“… يجب علينا أولا أن نتعرف على اليهودية من خلال المصدر الذي يقدم ذاته بذاته، ووحده الوثيقة والدليل عن نفسه، وقد تخلص من حطام جميع ما علق به. وهذا المصدر هو التوراة. ومن خلال التوراة يجب أن نحقق، أيضا، فهم مصير إسرائيل. فهل ليست اليهودية ظاهرة تاريخية، وليست التوراة هي الوثيقة الوحيد لمصدرها، وظهورها الأول على مسرح التاريخ ووجودها لفترة طويلة من الزمن بعد ذلك؟ … ومع ذلك، قبل أن نفتحها، دعونا ننظر في كيفية قراءتها. هل الموضوع ينتمي إلى البحوث اللغوية أو الأثرية؟ … كوننا يهودًا، سوف نقرأ هذا الكتاب، ككتاب قدمه الله لنا من أجل أن نتعلم منه عن أنفسنا، ما نحن عليه وما يجب أن نكون خلال وجودنا الدنيوي. سوف نقرأها على أنها توراة، وتعني حرفيا، “تعليمات”، تقودنا وتوجهنا في عالم الله وفي وسط البشرية، ما يجعل حياتنا الداخلية تتجدد أو تعود إلى الحياة.”[16]

في اليهودية القديمة[17]، كانت هناك أساسا ثلاث مقاربات لتفسير الكتاب المقدس العبري، وهذه المقاربات مرتبطة بمجموعات مختلفة من المعلمين: (1) المدرسة الفلسطينية البابلية المرتبطة بالفريسيين؛ (2) المدرسة الهلنستية الرمزية التي تمثلها فيلو؛ و (3) المدرسة الطائفية ذات التوجه النبوي، وهي لها علاقة مع قمران والأسينيين. المدرسة الأولى هي التي تمثل اليهودية المعتدلة، عليها نركّز، بينما المدرسة الرمزية تبنّاها عدد من آباء الكنيسة، والمدرسة الثالثة كانت تطبقها فرق يهودية صغيرة فصلت نفسها عن الخط اليهودي العام.

يشار إلى تقنيات التفسير التي يستخدمها هؤلاء الحاخامات بشكل جماعي بالكلمة العبرية مدراش، وهي تعني “عرض”. من الصعب جدا وصف هذه التقنيات أو الكلام عن خصائصها في بضع كلمات. كان الحاخامات غالبا ما يفسرون النص بالمعنى الحرفي المباشر. ولكنهم أيضا يلجأون إلى استخدام بعض الأساليب التي قد نصفها بـ”الخيالية” أو “الإبداعية”. وبصفة عامة، فإن هذه الأساليب تنطوي كلها على التركيز بشكل وثيق على تفاصيل النص، وتفسيرها بطريقة غير عادية، وعادة عن طريق ربطها بتفاصيل مماثلة من السياقات النائية. سأقدم أربعة أمثلة لتوضيح هذه التقنيات:

المثال الأول، قد يلااحظ الحاخام أن اسم شخص ما يتكرر في السرد، كما عندما يدعو الله موسى بالقول، “موسى، موسى”. وقد يلاحظ أيضا أن موسى وبعض الآخرين الذين تُكّرَّر أسماؤهم يوصفون، في مكان آخر، بـ”الكمال”. يفسر الحاخام هذه الكلمة “الكمال” بمعنى تقني يعني “ختان”. ثم يمضي إلى استنتاج أن أي شخص يتكرر اسمه في سرد يجب أن يكون مختونًا. وهكذا من خلال هذا التوجه في التفكير، يأخذ الحاخام النص الذي يتكرر فيه اسم ما، إلى مسار مختلف، ويجعلها مناسبة للحديث عن الختان، وهذا موضوع مستحب عند الحاخامات. طبعًا من الواضح بما فيه الكفاية أن هذا الاستنتاج مصطنع، ولكن يبدو أن الحاخامات لديهم رغبة قوية في ربط كل كلمة من في الكتاب المقدس بوصية من الوصايا. ويبدو يعمدون إلى القيام بذلك بطرق عديدة، ما يدل على اجتهاد في تنفنيد ألفاظ الكتاب المقدس بدقة وإتقانهم لهذه التقنية.

المثال الثاني، كلمات مزمور 9: 2 : “أَفْرَحُ وَأَبْتَهِجُ بِكَ”. لاحظ أحد الحاخامات أن الحروف الساكنة العبرية في كلمة  “بك” لها قيمة عددية 22 (للحروف العبرية أرقام، كما هو الحال في الأرقام الرومانية). ولأن هناك 22 حرفًا في الأبجدية العبرية، ذهب لتفسير العبارة كما لو أنها قد تعني: “أفرح وأبتهج في ذلك الذي هو مكتوب في الأبجدية المؤلفة من 22 حرفًا”، وهذا يعني “في التوراة”. مرة أخرى، هذه معالجة اصطناعية للنص، يربط فيها المفسر المعنى بإحدى الوصايا، حيث يستجلب معى مخفيًا بطريقة اجتهادية.

المثال الثالث، في الجملة “قال الجاهل في قلبه، ليس إله” (مزمور 14: 1)، أراد حاخام أن يُعرِّف عن “الجاهل” (عبري “نابال”) بشخصية كتابية لتُتاح له الفرصة أن يتكلم بإسهاب عن هذه الجهالة. فيقول أن “نابال” جناس من “لابان” أخي رفقة”، ويُسهب في الكلام عن جهالة لابان. هذا النوع من المعالجة يأخذا اتجاهات مختلفة في الأدب الرابي.

المثال الرابع، أراد حاخام أن يرى في الجملة الكتابية “في البدء خلق الله” (تكوين 1: 1) إشارة إلى التوراة. وهكذا يفسر حرف الجر ب الملتصقة بكلمة “بدء” (عبري “ريشيث”) وكأنها تعني “بسبب” أو “من أجل”، وهكذا يصبح معنى الجملة “من أجل البدء، خلق الله”. لكن أي بدء؟، بالطبع ليس بدء العالم، بل ب”البدء”، التوراة، حيث هي مدعوة في مكان آخر “بدء” (عبري “ريشيث”) (أمثال 8: 22). وهكذا يكون المعنى هو أن الله خلق العالم من أجل التوراة.

وأمثلة عديدة ن هذا النوع من “التفسير الرابي” أو “الحاخامي”، ليس من الصعب إيجاده في كل الأدبيات اليهودية الرابية.

أما الوعظ الرابي الذي كان يتبع قراءة التوراة والأنبياء في المجمع، فكثيرًا ما كان الواعظ يعتمد على التفسير الحرفي والاستطراد ليخبر قصصًا خيالية وأسطورية عن شخصيات كتابية مرموقة مثل آدم، وحواء، هابيل، نوح، إبراهيم، موسى، عزرا، إلخ. وفي أكثر الأحيان تكون هذه القصص مسلية للسامعين ووسيلة لتمرير الدروس الأخلاقية. ففي إحدى هذه القصص، يجيب الواعظ على سؤال: لماذا خلق الله حواء، فيقول: بما أن آدم خُلق على صورة الله، فكانت المخلوقات الأخرى لا تفرقه عن الله نفسه،

“… وحتى الملائكة ظنت أن آدم هو سيد الكل، وكانوا على أهبة إلقاء التحية عليه بالكلمات “قدوس قدوس قدوس هو رب الجنود”. وعندما أوقعه الله في سبات عميق، عندها علمت الملائكة أن ما هو إلا كائن بشري. وكان سبب السبات التي أوقع آدم فيه هو إعطاءه زوجة، حتى يتكاثر الجنس البشري، وليتعرف بقية المخلوقات على الفرق بين الله والإنسان.”

مرة أخرى، نرى التوجه لربط التفسير بوصية من الوصايا، وفي هذه الحالة الوصية هي تلك التي توصي بالامتناع عن عبادة أي إله آخر وعبادة الله وحده.

وأخيرًا، نورد قصة عن دعوة إبراهيم وردت ي أحد المدارش.

تقول القصة بأن والد إبراهيم كان صانع تماثيل للأوثان. ولما توصل إبراهيم إلى الإيمان بأن الأوثان بطالين لا فائدة منها، وكإبن مطيع لوالده، وجد الطريقة المثلى كيف يوعّي والده على هذه الحقيقة مع المحافظة على احترامه. جاء إبراهيم مرة ليقدم تقدمة المساء لأوثان أبيه، وبدل أن يقسمها على الأوثان، وضع التقدمة أمام كبيرها. ثم قام بتحطيم الأوثان الأخرى، ولما انتهى، وضع المطرقة في يد الوثن الكبير. ولما جاء والده في اليوم التالي ورأى ما حدث، سأل ابنه إبراهيم عن تفسير ما يرى، فأجابه بأن الأوثان تصارعت على التقدمة فغلبها كبيرها وحطمها واستحصل على التقدمة لنفسه. فأجابه والده: لا تكن غبيًا فإن الأوثان لا يتحركون ويحطمون بعضهم بعضًا. ثم وعى الأب إلى ما يقول واعتنق إيمان ابنه.

نعتقد أن القصة القرآنية عن إبراهيم متأثرة بهذه القصة وبغيرها.

أما العلماء اليهود اليوم، وخاصة المتحررون، لا يرجعون إلى التفاسير المدراشية إلا من باب المحافظة على التراث، لكنهم يستخدمون طرق النقد التاريخي، كما المسيحيون تمامًا، غير أنهم لا يحملون تفاسيرهم توجهات مسيحية. لكن الوعاظ اليهود في المجامع ما زالوا يستخدمون الكثير من القصص التي ألصقتها التفاسير المدراشية بشخصيات كتابية معروفة، وذلك كطريقة تربوية لإيصال الأمثولة الأخلاقية للسامع.

لليهود أيضًا قراءتهم المسيانية، فبعض حكمائهم يرون صورًا مسياوية في كثير من النصوص. وفي الترجوم، الترجمة الآرامية للكتاب المقدس العبري، يشيرون بصراحة إلى “المسيا” عندما يرون أن النص يحمل صورة مسياوية.

3/2. القراءة المسيحية

طبعًا يعتقد المسيحيون بأن العهد القديم هو  وحي الله وكلام الله، وإن اختلفت عندهم نظريات الوحي ومعنى “كلام الله. القراءة المسيحية للعهد القديم هي القراءة التي قرأها المسيح وأتباعه وعكسها كُتّاب العهد الجديد وآباء الكنيسة بعد ذلك. ملخص هذه القراءة هي أن كل ما تحقق في الحدث المسيحاني هو تتميم لما سبق وكُتب في العهد القديم. العهد القديم هو الإنباء عن هذا الحدث والإعداد له، والعهد الجديد هو الشهادة لهذا الحدث.

كان المسيح يعتقد أن العهد القديم وحي إلهي، كلمة الله الحقيقية. لقد دعا المكتوب كلام الله ورأى بأنه مستحيل أن يُنقض (يوحنا 10: 35). أشار إليه بأنه “وصية الله” (متى 15: 3) و “كلمة الله” (مرقس 7: 13). وقال بأن كلام الله لا يزول (متى 5: 18). في حواراته مع الناس، سواء كان ذلك مع التلاميذ أو القادة الدينيين، كان المسيح يشير باستمرار إلى العهد القديم كمرجع لتعليمه، وكان يفسر الكلام في سياق حدثه (متى 22: 31؛ متى 21: 16، نقلا عن مزمور 8: 2؛ متى 12: 3).

توقف كتبة الأناجيل، وخاصة متى، عند بعض التفاصيل في الحدث المسيحاني ورأوها تتميمًا لبعض النصوص في العهد القديم، مثل ولادة المسيح من عذراء (متى 1: 18 وإش 7: 14 و9: 6)؛ ولادة المسيح في بيت لحم (مت 2: 1 وتابع ومي 5: 2)؛ قتل الأطفال (مت 2: 16-18 وإر 31: 15)؛ الهروب إلى مصر (مت 2: 14، 17 وهوشع 11: 1)؛ مناداته بالبشارة في الجليل: (مت 4: 12 – 16 واش 9: 1 و2)؛ دخوله الانتصاري إلى اورشليم: (مت 21: 1 – 11، وزك 9: 9 وانظر أيضًا اش 62: 11)؛ أحد المقربين منه يسلمه: (مت 26: 14 – 16، ومز 41: 9)؛ سيُباع بثلاثين من الفضة: (مت 26: 15 وانظر أيضًا مت 27: 3 – 10، وزك 11: 12-13)؛ يُعاد الثمن ويشترى به حقل الفخاري: (مت 27: 6 -7 وانظر أيضًا مت 27: 3 و 5 و 8 – 10، وزك 11: 13)؛ وظيفة يهوذا، مسلمه، يأخذها آخر: (أعمال 1: 16-20، ومز 109: 7 و 8)؛ وإلخ.

من الصعب، لمن يقرأ هذه النصوص من العهد القديم، التعرّف على أي طابع مسيحاني لهذه النصوص إذ أنها تأتي في سياقاتها التاريخية المختلفة وتتعلق بمواضيع تخص حقبة الكتابة. ثم إذا قمنا بمقارنة التفاصيل في كل نص من العهد القديم و”تتميمه” في العهد الجديد، نقع على الكثير من المفارقات. لكن القارئ المسيحي قرأها على ضوء الحدث المسيحاني وخلفيته، فاستطاع أن يجد لبعض تفاصيلها ما يشبهها في العهد القديم، ووصفها كنُبُوّات مستقبلية، منطلقًا من فكرة أساسية هي أن العهد القديم هو تأسيس للحدث المسيحاني.

4. القراءة الرمزية

القراءة الرمزية لنص معيّن هي القراءة التي تأخذ بعين الاعتبار استخدام الكاتب صُوَرًا مادية أو كائنات أسطورية أو صورًا لظواهر طبيعية لنقل معنى مجرد يصعب التعبير عنه من دون هذه الصور. تُدعى هذه الصور رموزًا أو استعارات. من الصعب التمييز بين الرموز والاستعارات. لكن نستطيع أن نقول أن الاستعارة هي رمز أصبح كثير الاستعمال ودخل في نسيج اللغة لذلك أصبح تفسيره بديهيًا. أما الرمز فهو صورة ما زالت تحتاج إلى تفسير. في كل لغة صُور كلامية هي بالحقيقة رموز واستعارات، وخاصة في اللغات الساميّة، وتكثر هذه الصور أو الاستعارات خاصة في النصوص الشعرية والنصوص الرؤيوية. هناك عدة أنواع من الرموز،  فالرموز العادية أصبحت في صلب اللغة ومن السهل فهمها، مثلًا “أكل عليه الدهر وشرب” ونعني به شيئًا قديمًا؛ والرموز الشعرية التي هي كثيرًا ما تكون صورًا أو ظواهر طبيعية؛ والرموز الرؤيوية مثل المركبة الإلهية في حزقيال 1، والكائنات الأربعة في رؤيا 1.

القراءة الرمزية تقليد أدبي طبقه اليهود، وخاصة الصوفيون- ونعرف منهم فيلو الاسكندري- على النصوص المقدسة، أخذوه عن اليونان، ومنهم انتقل إلى آباء الكنيسة. لجأ اليهود الصوفيون وآباء الكنيسة إلى القراءة الرمزية عندما المعنى الحرفي يسند التجسيم والصور المادية إلى الله، مثل عبارة “رب الجنود”، “الرب يقاتل” أو “الرب يحارب”، أو الصورة التي يعكسها النص تُعتبر مشينة أو لا أخلاقية ولا تليق بكتاب مقدس، مثل سفر نشيد الأناشيد.

يلجأ بعض المفسرين إلى القراءة الرمزية عندما يرون أن المعنى الحرفي لا ينسجم مع العلم والمنطق، فيرون مثلاً في صورة الزلازل اهتزاز الأنظمة السياسية والاقتصادية، وفي صورة تفتح القبور عند صلب المسيح، الحياة التي انبثقت من موت المسيح.

5. القراءة التقوية

القراءة التقوية والقراءة الروحية والقراءة التأملية، والقراءة الربية عدة مسميات لمعنى واحد وهو قراءة منتظمة للكتاب المقدس بروح الصلاة والتأمل بغية التغذي روحيًا واستخلاص الدروس الروحية والأخلاقية. وهذا مؤسس على الرأي القائل إن للنص الكتابي بُعدَين: ظاهري وباطني. نخوض البعد الظاهري لندرس الكتاب المقدس، ونخوض البعد الباطني لنتغذى روحيًا بكلام الله.

لهذه القراءة التقوية أساس كتابي، وهو التوصية التي قدمها بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس، وهي “المواظبة على القراءة” (1 تيم 4 :13) مما يعني أن تيموثاوس تلميذه يجب أن “يواظب على قراءة الكتب المقدسة، ليس في طريق عابر ولفترة قصيرة، ولكن بشكل منتظم و لفترة طويلة.  وقال القديس برنارد من كليرفو أن “القراءة الروحية والصلاة هي الأسلحة التي تغزو الجحيم وتفوز بالجنة”. وأوصى آباء الكنيسة بهذه الممارس. يقول القديس إيرونيموس أنه عندما نصلي نتحدث إلى الله. ولكن عندما نقرأ، الله يتحدث لنا. يقول أمبروسيوس من ميلانو ما يعطي المعنى نفسه: “نخاطبه عندما نصلي، نسمعه عندما نقرأ”.

القراءة التقوية تدعو إلى عدم التوقف عند المعاني المادية للنص بل تجاوزها والولوج إلى روح الكلمة وجوهرها. لا تبتغي القراءة التقوية زيادة المعرفة الكتابية أو اللاهوتية بل التغذي بالكلمة من أجل الصمود في الضيقات والتجارب.

توجد عدة مدارس وتقنيات للقراءة التقوية وكلها تتضمن فقرات القراءة، والتأمل، والصمت، والصلاة.

6. القراءة الاجتماعية السياسية

القراءة الاجتماعية السياسية للكتاب المقدس تهدف إلى استخلاص القواعد الأخلاقية الإلهية لتنظيم المجتمع وإرساء العدالة الاجتماعية وأخذ القرارات السياسية التي تنسجم مع الأخلاقية الإلهية. هذه القراءة مؤسسة على أن الكتاب المقدس عالج مواضيع اجتماعية سياسية كثيرة. فقلب رسالة الأنبياء هي المناداة بالعدالة الاجتماعية، وبحياة دينية منسجمة مع قواعد الاخلاق. وقد خصّ الأنبياء في العهد القديم ملوك إسرائيل ويهوذا والقادة السياسيين فيهما بكثير من التوجيهات والإرشادات والتحذيرات، منها ما يتعلق بحياتهم الدينية والأخلاقية، وكثير منها ما يتعلق بالقضايا الاجتماعية وقضايا الحكم. نجد في العهد الجديد أيضًا إرشادات تتعلق بسلوك الفرد المسيحي في المجتمع وموقفه من السلطة الحاكمة.

هناك الكثير من النصوص في الكتاب المقدس التي يمكن أن يُنظر إليها بمنظار اجتماعي سياسي، وهكذا فعل عدد من علماء الكتاب المقدس وقُرّائه. فقصة خروج العبرانيين من مصر يمكن أن تُقرأ كقصة تحرير جماعة من العبيد المقهورين من طغيان سيد شرير هو الفرعون بواسطة زعيم سياسي وقائد ثورة اسمه موسى؛ والعهد الذي قطعه الله مع بني إسرائيل على جبل سيناء له طابع اجتماعي بالإضافة إلى طابعه الديني، والكثير من الشرائع الموسوية، التي أتت مع العهد، بحسب النصوص، لها طابع اجتماعي وسياسي، مثل النصوص التي تنظم الميراث، والقضاء، وإقامة العدالة. في أناشيد عبد يهوه، في إشعيا الثاني، نجد الكثير من الصور التي تتعلق بالتحرير وإقامة العدالة الاجتماعية. وكذلك في العهد الجديد، وبالتحديد في الأناجيل، يمكن أن تُقرأ أعمال يسوع وتعاليمه، وخاصة الأمثال، بمنظار اجتماعي سياسي ومنها ما يتعلق بحق الأجراء، وحقوق الأولاد والنساء.

يرى عدد من العلماء الذين اعتمدوا القراءة الاجتماعية السياسية أن الدين والأخلاق والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان الطبيعية لا يمكن فصلها عن بعضها عن بعضها الآخر، فلا عبادة صحيحة مع انتهاك الحريات العامة والشخصية، والتعدي على حقوق الأفراد، وعدم المساواة الجندرية، وانتهاك حقوق الأطفال. العبادة الصحيحة هي توخي سلوك أخلاقي سليم. وما “ملكوت الله إلا مساحة في المجتمع تُحترم فيها الحريات وحقوق الإنسان والمساواة.

ويمكننا القول بأن ما يُسمّى بـ”لاهوت التحرير”، و”لاهوت الأرض” وكل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية مؤسس على قراءة اجتماعية سياسية لنصوص الكتاب المقدس.

سادسًا: اختيار قراءة الكتاب المقدس المناسبة

نكرر ما قلنا أعلاه، إن ما يدفع القارئ لاختيار مقاربة ما أو قراءة ما للكتاب المقدس هو الهدف من القراءة، فمن يدرس تاريخ إسرائيل القديمة الديني والدنيوي، أو تاريخ ديانات الشرق الأوسط القديم سيختار حتمًا القراءة الحرفية النقدية. ومن يتوخى الغذاء الروحي سيقوم بقراءة تقوية.

هذا يدفعني إلى التأكيد على أن النص الكتابي متعدد الأبعاد. فهو بالدرجة الأولى نص ديني ينظم العبادة والحياة الدينية، ومصدر الروحانية والقيم والأخلاق. لكنه يحتوى أيضًا على تراثات دينية، ومعلومات تاريخية، ويطلعنا على تاريخ العلوم والفكر الديني والسلوك الاجتماعي وتطورها عبر الأجيال.

أعتقد أن القراءة النقدية وسيلة مجدية لفهم المعنى الواقعي الذي قصده كاتب النص وفهمه القراء الأول. إن استخلاص المعنى الاقعي للنص خطوة مهمة قبل استخلاص المعاني والدلالات اللاهوتية أو العلمية أو الروحية من النص المقروء. فلا أستطيع أن أستخلص معطىً علميًا أو نظرية لاهوتية، أو درسًا روحيًا بالاعتماد فقط على قراءة حرفية. يجب أن أخضع النص الحرفي للنقد التاريخي كي أتوصل إلى معانيه الروحية واللاهوتية الغنية، أو المعلومات العلمية والتاريخية التي يمكنني أن استفيد منها. القراءة النقدية هي ركن أساسي لقراءة الكتاب المقدس وتفسيره، ومن دونها لا يتمكن القارئ من الوصول إلى المعاني الحقيقية للنص.

الخلاصة

الكتاب المقدس كتاب ديني وكتاب تراثي؛ هو الكتاب الأكثر مبيعًا في العالم. فبالإضافة إلى كونه المرجع الأساس للمسيحيين، هو منجم من المعلومات التاريخية وتاريخ الأديان وتاريخ العلوم. فمن يدرس الآداب الساميّة وتاريخها، أو التاريخ القديم، أو تاريخ الفكر الديني وغيرها من العلوم المشابهة، عليه أن يقرأ اكتاب المقدس.

استعرضنا، في هذه الدراسة، المقاربات المختلفة للكتاب المقدس، وحصرناها في مقاربتين: مقاربته كمرجع ديني موحى به من الله، ومقاربته ككتاب تراثي وأدبي. أما إذا اعتبرناه كتابًا دينيًا موحى به، فقراءته متعدة، وتعدد القراءات متعلق بموضوع تكوّنه وكيفية الوحي. لذلك استعرضنا النظرية التقليدة والنظريات النقدية لتكوّن الكتاب المقدس، ثم استعرضنا نظريات الوحي المختلفة. وأخيرًا، استعرضنا القراءات المتنوعة الممكنة للكتاب المقدس. وبيّنّا لزوم كل منها وأهدافها. وعددنا حسناتها وحذرنا من سيئاتها.

باعتقادنا،  الطريقة التي يقارب القارئ فيها الكتاب المقدس، والقراءة التي يختار يحددان مسيرته الإيمانية وفهمه لموضوع الدين بشكل عام، الدين اليهودي والدين المسيحي بوجه خاص.

[1] من أجل دراسة وافية لموضوع العهد القديم وتكوّنه أنظر عيسى دياب، العهد القديم وعالمه، منصورية المتن (لبنان): دار منهل الحياة، 2014.

[2]  K. van der Toorn, Family Religion in Babylonia, Ugarit and Israel: Continuity and Changes in the Forms of Religious Life, BRILL 1996 pp. 181, 282.

[3] Norman Gottwald, Tribes of Yahweh: A Sociology of the Religion of Liberated Israel, 1250–1050 BCE, A&C Black, 1999 p. 433, cf. 455–—56.

[4]  Norman Gottwald, Op. Cit., p. 433, cf. 455–—56

[5]  Stefan Paas, Creation and Judgement: Creation Texts in Some Eighth Century Prophets, Brill, 2003 pp. 110–21, 144.

[6] Finkelstein, Israel. “Ethnicity and origin of the Iron I settlers in the Highlands of Canaan: Can the real Israel stand up?” The Biblical archaeologist 59.4 (1996): 198–212; Finkelstein, Israel, The archaeology of the Israelite settlement. Jerusalem: Israel Exploration Society, 1988; Finkelstein, Israel, and Nadav Naʼaman, (eds.), From nomadism to monarchy: archaeological and historical aspects of early Israel, Yad Izhak Ben-Zvi, 1994; Finkelstein, Israel, and Neil Asher Silberman, The Bible Unearthed: Archaeology’s New Vision of Ancient Israel and the Origin of Sacred Texts, Simon and Schuster, 2002.

[7] “The Interpretation of the Bible in the Church” http://catholic-resources.org/ChurchDocs/PBC_Interp-FullText.htm, viewed January 4, 2018.

[8]  http://w2.vatican.va/content/benedict-xvi/fr/apost_exhortations/documents/hf_ben-xvi_exh_20100930_verbum-domini.html.

[9] Lewis on Miracles, Art Lindsley, Knowing & Doing; A Teaching Quarterly for Discipleship of Heart and Mind: C.S. LEWIS INSTITUTE, Fall 2004; John C. Whitcomb, The History and Impact of the Book, The Genesis Flood, Impact, Number 395, May 2006.

[10] Chicago Statement on Biblical Hermeneutics With commentary by Norman L. Geisler, Reproduced from, Explaining Hermeneutics: A Commentary on the Chicago Statement on Biblical Hermeneutics, Oakland, California: International Council on Biblical Inerrancy, 1983.

[11] McDonald & Sanders, (ed.), The Canon Debate, p. 4

[12] الهرمنوطيقا، ترجمة وجيه قانصوه

[13] “Biblical Literalism History”. Archived from the original on 2013-12-15. Retrieved 2013-12-15; Karen Armstrong, a most popular liberal living historian of religion writes, “Before the modern period, Jews, Christians and Muslims all relished highly allegorical interpretations of scripture. The word of God was infinite and could not be tied down to a single interpretation. Preoccupation with literal truth is a product of the scientific revolution, when reason achieved such spectacular results that mythology was no longer regarded as a valid path to knowledge.”

[14] Gerhard Ebeling, Word and Faith, Philadelphia, Fortress Press, 1963

[15] Soulen, Richard N, Handbook of Biblical Criticism. John Knox, 2001, p. 79.

[16] https://www.myjewishlearning.com/rabbis-without-borders/how-to-read-the-hebrew-bible/ Retrieved Dec, 1, 2017.

[17] من هنا حتى آخر القسم، مستوحى من مقالة إلكترونية: http://www.bible-researcher.com/jewish-interpretation.html بتاريخ 5  ديسمبر/كانون الأول 2017

RECENT POSTS

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في العهد الجديد الخوري الدكتور باسم الراعي* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023) مقدّمة القسّ د. عيسى دياب هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها...

×