هل الأوبئة من الله وعلامة غضب إلهي؟

الأب الدكتور بيار نجم

الأب د. بيار نجم*

(محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابيّة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدَّس في لبنان بتاريخ 26/2/2021)

تقديم الموضوع مِن قِبل القسّ د. عيسى دياب

هذه الندوة هي الأولى لهذه السنة 2021 بين ثلاث ندوات، نتناول فيها موضوع الكتاب المقدَّس والأوبئة.

على أثر انتشار جائحة كورونا في العالم كلّه، بدأ الناس، خاصّة المتديّنون، يتساءلون ما هو دور الله في ظهور هذه الجائحة وانتشارها بشكل كبير؟ هل هو سبَّبَها؟ هل الشرير سبَّبَها والله سمح بها؟ أم هل شرّ الإنسان سبَّبَها؟ وإذا كان الله قد سبَّبها، أم غيره، فهل استخدمها الله لإظهار غضبه على البشريّة المنغمسة بالشرور، أو أنه قصد معاقبتهم بهذه الطريقة؟ انتشرت، على وسائل التواصل الاجتماعي أخبار عجيبة وغريبة حول هذه المواضيع، وعدد من رجال الدين قدّموا آراءهم، وبعضهم “أفتى” في الموضوع، وامتلأت المواقع الإلكترونيّة الدينيّة بهذه الأخبار.

هناك نوع آخَر مِن الأخبار التي انتشرت، مفادها أنّ الأوبئة علامة من علامات آخر الأيام. لكن سنغطي هذا الموضوع في المحاضرة الثانية من هذه السلسلة.

تتناول هذه الندوة عددًا من المواضيع المتعلقة بالله و”الغضب الإلهي”، و”العقاب الإلهي”. هل الله يغضب؟ ويعاقب؟ وهل يستخدم الأوبئة أو وسائل أخرى في عقابه؟

هذه الأسئلة وغيرها يتناولها المحاضر، بخبرته الواسعة ومهنيّته العالية، ليضع لنا أساسًا متينًا لفهم موضوع “الأوبئة” في بعض نصوص الكتاب المقدس، وليرشدنا إلى كيفية قراءة هذه النصوص وكيف نفهمها لنجد في الكتاب كلمة الله التي هي غذاء روحي لنفوسنا.

محاضرة الأب د. بيار نجم

مقدّمة

هذا الموضوع يحمل الكثير مِن التحدّيات لأنّه ليس موضوعًا معاصرًا ونختبره في حياتنا اليوميّة فحسب، بل هو موضوع حمل على مرّ تاريخ الكنيسة الكثير مِن الجدل والنقاش حول مصدر الألم ومصدر الأمراض والشرور. السؤال الأصعب الذي يُطرح: لماذا الشرّ؟ لماذا يَسمح الله بوجود الشرّ؟ لماذا يَسمح بأنْ يمسّ الشرُّ الشخصَ المؤمن به؟

لا شكّ إنّ هذا الموضوع وهذه الجائحة التي نعيشها اليوم هي مؤلمة لنا جميعًا، فالعديد مِن الأشخاص يعانون مِن الكوفيد وهم خائفون ومتألّمون ويصلّون مِن أجل أحبّائهم الموجودين في المستشفى. كما هناك أشخاص فارقوا الحياة بسبب هذا المرض. لكنْ، هذا ليس المرض الأوّل الذي يمرّ في تاريخنا، وليست الجائحة الأولى التي نعاني منها. ففي القرن الأخير كان هناك جائحات كالسارس والايبولا والسيدا وصولًا إلى جائحة الحمّى الإسبانيّة التي مات بسببها ملايين مِن الأشخاص. هذه كلّها أحداث تستوجب علينا طرح السؤال التالي: لماذا يَسمح الله بالشرّ والألم؟ لكنْ، هل فعلًا الله هو الذي يسبّب الألم؟ هل هو الذي يسبّب المرض؟ صحيح أنّنا أشخاص مؤمنون، لكنْ، لدينا هذا العتب على الله لماذا يَسمح بهذا؟ لماذا لا يساعدني؟ لماذا لا يشفيني؟ لدينا أحيانًا صورة خاطئة عن الله وشخصه ودوره في حياتنا. من السهل أنْ نقول إنّ الله ليس مصدر الألم والأوبئة والشرّ. لكنْ لا نستطيع أنْ نعطي هذا الجواب بهذه السرعة فهو جواب غير سهل.

سأحصر محاضرتي فقط بالكتاب المقدَّس في عهدَيه القديم والجديد مِن دون التطرُّق إلى تعليم الكنيسة أو اللاهوت العقائديّ ومِن دون التطرُّق إلى موضوع الأزمنة الأخيرة ومفهومها في الكتاب المقدَّس ولا إلى سِفر رؤيا يوحنّا، لأنّ هناك محاضرين سيتكلّمون عن هذه المواضيع فيما بعد.

الفصلان الأوّلان مِن سِفر التكوين

في الفصلَين الأوّلَين مِن سِفر التكوين، حيث كان الإنسان يعيش في عصره الذهبيّ، لم يكن هناك أمراض أو أوبئة. إنّما كي نفهم ماذا يقول الكتاب المقدَّس عن سبب الموت والمرض في حياة الإنسان، لا بدّ أنْ نذهب إلى الأصل، أي إلى هذَين الفصلَين مِن سِفر التكوين، حيث نرى خلْق الله للعالَم في سبعة أيّام (تكوين 1)، وخلْق آدم وحوّاء مِن التراب: آدم أُخذ مِن التراب وحوّاء أُخذت مِن ضلع آدم لتكون له عونًا وعضدًا (تكوين 2). لن نستفيض بمعاني هاتَين الروايتَين، لكنْ يجب أنْ نذكر أنّه كان هناك روايات أخرى شبيهة لها في الشرق القديم تتكلّم عن الخلق كملحمة غلغامش وإينوما إيليش اللتَين تتحدّثان عن الخلق وعن الآلهة التي تخلق الإنسان ليخدمها. الجديد في الكتاب المقدَّس هو أنّ الكاتب الموحى شدّد على أنّ الله هو الخالق الأوحد والخالق الذي ينظّم الكون لسبب واحد هو خلْق الإنسان. نرى صورة الله الذي يدخل بعلاقة، وهو في الوقت نفسه كائن ليس بحاجة إلى علاقة مع أحد، لكنّه خلَق الإنسان لا كالروايات الأخرى كي يتسلّى بهم بل لأنّه إله محبّ، يريد أنْ يدخل بعلاقة مع مَن خلَقه. فلاهوت التألّه يعني أنّ الله يريد أنْ يُشرك الإنسان معه مِن خلال التبنّي، وهذا سنراه جليًّا مع يسوع المسيح فيما بعد.

الله خلَق الإنسان كقمّة للخلْق، سلّطه على المخلوقات والأرض ليحرسها ويحرثها، أي أصبح الإنسان هو المسؤول تحت نظر الله عن طيبة الخليقة التي رآها الله أنّها “حسن” لسبع مرّات (تكوين 1).

لذلك نقطة الانطلاق الأنثروبولوجيّة الأساسيّة للكتاب المقدَّس برؤية الله للإنسان وبرؤية الإنسان لله هي علاقة المحبّة والصداقة والطيبة. لا نجد في هاتَين الروايتَين صورة الله المنتقم الذي يريد شقاء الإنسان واستعباده لا بل نرى في هذَين الفصلَين صورة الله الخالق المحبّ المحرّر.

ندخل بعدها بجدليّة طبيعة الإنسان حيث يعطي الكاتب تفاصيل الخلق: “جبَلَ الرّبُّ الإلهُ آدَمَ تُرابًا مِنَ الأرضِ ونفَخ في أنْفِه نَسَمَةَ حياةٍ. فصارَ آدمُ نفْسًا حيَّةً”[1] (تكوين 2: 7). هذه الآية محوريّة في فهمنا لأنثروبولوجيا الكتاب المقدَّس ولأنثروبولوجيا الخلق، لأنّ هذه الآية تعطينا الثنائيّة بين الإنسان الخارج مِن التراب، وهي الصورة نفسها التي نراها في الروايات والحضارات الشرق-أوسطيّة القديمة ولدى الفراعنة، أنّ الله جبل الإنسان مِن الطين؛ لكنّ القفزة الجديدة التي أعطاها الكتاب المقدَّس لصورة الإنسان الذي يخلقه هو أنّ هذا الإنسان في أنفه نسمة حياة مِن الله! وبالتالي هذه الثنائيّة: أنّه مِن التراب أي قابل للألم والمرض والموت، إنّما مِن ناحية أخرى يتخطّى هذه الحالة ويحتوي نَفَسًا مِن الله.

وهذا يهمّ موضوعنا لأنّه عندما نتكلّم عن الأمراض والألم وعندما نتوجّه بلومٍ إلى الله، لا بدّ أنْ تبقى هناك نافذة في أذهاننا لهذه الصورة أنّ الإنسان هو في الأصل كائن ترابيّ ولا بدّ أن يموت، لكنْ، في الوقت نفسه، هو ليس فقط ترابًا بل هو مخلوق على صورة الله ومثاله وفي أنفه نسمة حياة. هذا الإله أرادني سعيدًا وصحيحًا كإنسان وأراد، رغم محدوديّتي وطبعي البشريّ المخلوق مِن الطين، أنْ يضع فيّ نسمة مِن نَفَسه. إذًا يقول الكتاب المقدَّس بطريقة غير مباشرة: أنا الإنسان، المخلوق على صورة الله ومثاله، والذي نفخ الله فيّ نسمة مِن روحه، مدعوّ أنْ أتخطّى هذه الحالة المائتة وأنطلق إلى حالة التألّه.

السقوط (تكوين 3)

هنا بعد هذَين الفصلَين يأتي الحدث الأليم في حياتنا البشريّة، ويساعدنا على فهْم سبب المرض والموت، وهو حرّيّة الإنسان. فصحيح أنّ الله خلَق الإنسان على صورته ومثاله، وأعطاه نسمة منه، إنّما أيضًا أعطاه المسؤوليّة والقدرة أنْ يَقبل أو أنْ يَرفض الله في حياته. ونرى ذلك مِن خلال رمزيّة صورة شجرة الحياة التي جُعلت في وسط الجنّة وشجرة معرفة الخير والشرّ. طبعًا شجرة الحياة هي رمز الحياة الأبديّة. الإنسان بحسب الرؤية الانثروبولوجيّة للعهد القديم ولسِفر التكوين كان إنسانًا غير معرَّض للموت لأنّه في اتّحاد دائم مع الله، يرغب بالله ويَقبله كمصدر لحياته، وهذه رمزيّة شجرة الحياة التي جُعلت في وسط الجنّة.

لكنّ الكاتب يعطي أيضًا صورة أخرى هي صورة شجرة معرفة الخير والشرّ التي زُرعَت أيضًا في الجنّة وحذّر الله مِن أكلها لأنّهما إنْ أكلا منها موتًا يموتا (تكوين 2: 17). ثمّ نرى الحيّة وهي مصدر خارجيّ عن الله، فيدخل منطق الشرّ، ذلك الواقع الذي يدعو الإنسان أنْ يتخلّى عن الله كمصدر سعادته وفرحه وأنْ يجعل مِن ذاته مصدرًا للسعادة والخلاص. الحيّة التي ترمز إلى الشرّ تقول: “أحقًا قالَ اللهُ: لا تأكُلاَ مِنْ جميعِ شجرِ الجنَّةِ؟” (تكوين 3: 1)، فتُقنع حوّاء وآدم أنْ يأكلا مِن هذه الشجرة ليصبحا مِثل الله فيعرفا الخير والشرّ.

هذا التفصيل الصغير الأساسيّ في الكتاب المقدَّس هو هذه الخطيئة الأساسيّة التي وقع فيها آدم وحوّاء: “تَصيرانِ مِثلَ اللهِ” (تكوين 3: 5). ليست الخطيئة التفتيش عن الحياة الأبديّة مِن خلال أكل شجرة الحياة لأنّ الله أراد منذ البدء أنْ تكون للإنسان الحياة والحياة الأبديّة، بل الخطيئة هي: تعال نأكل منها فنصير مِثل الله ونعرف الخير والشرّ. سبب الخطيئة ليس الله. الله ليس مصدر الشرّ. سبب الخطيئة هو حرّيّة الإنسان. هذه الحرّيّة التي أُعطيت لآدم وحوّاء بأنْ يقبلا الله أو يرفضاه، فقرّرا ألّا يكونا مع الله بل أنْ يكونا مِثله. “عرف” أو “المعرفة” هي أكثر مِن مجرّد معرفة عقليّة بل هي، بمفهوم الفلسفة اليونانيّة، وفي العبريّة، تعني أنْ يسيطر الشخص على الحقيقة. آدم وحوّاء أرادا أنْ يعرفا الله ويسيطرا عليه وأنْ يكونا مكانه.

بعد هذا الحدث، وبعد سقوط آدم وحوّاء، نرى أنّ الله لم يقتلهما بل على العكس هو يحميهما ويضعهما خارج الجنّة لأنّهما غير مستعدَّين بعد ليكونا في الجنّة وليأكلا مِن شجرة الحياة، فهُم موتًا سيموتا إنْ بقيا في الجنّة بسبب رفضهما لله. ووضع الله حارسًا لباب الجنّة كروبيم العهد وأصبح آدم وحوّاء خارج الجنّة (تكوين 3: 23-24). وهنا بدأت حالة السقوط والابتعاد عن الله. وبدأنا التكلّم عن نتائج الشرّ ونتيجة شرّ آدم وحوّاء انعكسَت على الطبيعة وعلى علاقة بعضهما ببعض وانعكسَت مباشرة على استمراريّة الحياة. فسنرى أنّ آدم سيبدأ بالجهد والاعتناء بالأرض التي دُعي ليحرسها ويحرثها. وهذه الأرض ستنبت له الشوك (تكوين 3: 18). وهنا وبطريقة رمزيّة يودّ الكاتب أنْ يقول إنّ نتيجة معصية آدم وحوّاء ونتيجة انفصالهما عن الله، صار هناك حالة عداوة بينهما وبين المخلوقات، وبينهما وبين الأرض. نرى حوّاء ستلد في الأوجاع (تكوين 3: 16)، ونرى حالة السقوط التي سيعيشانها كلاهما، وليس بسبب إرادة الله، فهو ليس سبب الموت والألم. بل يقول هنا الكتاب المقدَّس بشكل واضح إنّ ألم الإنسان والمرض الذي يطاله في حياته اليوميّة هو بسبب حرّيته وإرادته، فهو قرّر أنْ يترك الله مصدر السعادة ومصدر الحياة. قطع ذاته عن مصدر الحياة وعن نبع الماء، ولذلك لا بدّ له أنْ يموت.

فنقطة انطلاقنا كانت هذَين الفصلَين الأوّلَين اللذَين تكلّمنا عنهما كي نرى أنّ النظرة النثروبولوجيّة منذ الأصل في الكتاب المقدَّس هي نظرة جيّدة، وأنّ الإنسان هو مخلوق حسنًا والطبيعة هي طبيعة حسنة، وخاصّة الله هو الإله الذي يريد أنْ يدخل بعلاقة مع الإنسان، لا أنْ يعاقبه أو أنْ يقتله.

الطوفان (تكوين  6—8)

أيضًا في سِفر التكوين نرى حدث الطوفان. والعديد مِن الأشخاص يطرحون السؤال: هل الله هو مصدر الشرّ؟ (أحاول أنْ أختار بعض الأمثلة مِن الكتاب المقدَّس لأنّي لا أقدر أنْ أعرض كلّ الأمثلة).

الطوفان هو نصّ رمزيّ لا بدّ مِن قراءته قراءة غير حرفيّة بل علينا أنْ نضعه في إطاره الأساسيّ، ونعرف أنّ هذا النصّ له أيضًا مقابل في الأدب الشرق-أوسطيّ القديم. إذ نجد القصّة نفسها في تلك الحضارات، إنّما كاتب النصّ المقدَّس أخذها بعد احتكاكه بالشعوب الأخرى خاصّة البابليّة وطوّرها لاهوتيًّا.

فإذا تمعنّا في قصّة الطوفان لا نرى أنّ الله يعاقب شعبه بل نرى أنّ الله يخلّص شعبه ويعيد التكوين مِن الأصل. فنحن لا نتكلّم عن موت ملايين مِن البشر بل عن معموديّة جديدة لهذه الخليقة. للأسف ليس لدينا متّسع مِن الوقت لشرح النصّ. لكنْ، نرى أنّ السبب الأساسيّ للطوفان هو أنّ قلب الإنسان قد فسد وامتلأ شرًّا. وكذلك الأرض فسدَت وامتلأَت عنفًا (تكوين 6: 11). فالطوفان كان نتيجة لهذا الفساد.

ويظهر نوح وهو رمز للبارّ الصدّيق المضطهَد فيدخل بعلاقة خلاصيّة مع الله. سنفهم أنّ النصّ ليس إبادة جماعيّة. بل هو يقول إنّ نوح الذي اختاره الله، وكان رجلًا بارًّا وكاملًا، كان يتمشّى مع الله كالإنسان القديم، ونوح الذي يسمع ويؤمن بكلمة الله أصبح مثالًا لشعب الله لكيفيّة الدخول بعلاقة مع الربّ. إذًا يقول الله: ارجعوا إلى العلاقة الأصليّة معي. وقصّة الطوفان وُضعت بَعد نصّ السقوط كي يقول الله لنا إنّه يريد أنْ يعطي انطلاقة جديدة لشعبه. والتفصيل المميّز الذي نراه: صورة نوح الذي يبني الفلك، فإذا قارننا بين هذا النصّ في تكوين 6 وبين 1 ملوك 2: 6-11 نلاحظ نقاط تشابه عديدة بين بناء الفلك مِن قِبل نوح وبناء الهيكل مِن قِبل سليمان.

إذًا نفهم أنّ صورة بناء الفلك هي صورة مسبقة، والكاتب يكتب على ضوء بناء هيكل أورشليم ليقول إنّه مِن خلال العودة إلى الله (حالة الليتورجيا والذبيحة)، مِن خلال العلاقة مع الله في الهيكل الذي يُرمز إليه بفلك نوح، أعاد الله العلاقة بينه وبين الإنسان. ويصبح الطوفان معموديّة شاملة للبشريّة وليست عمليّة قتل جماعيّ. لأنّ الله منذ انطلاقته في الكتاب المقدَّس هو إله خيّر وإله يريد للبشر أنْ يحيوا لا أنْ يموتوا.

ضربات مصر العشر في سِفر الخروج

هناك نقطة أخرى تخلق لنا إشكاليّات في صورتنا عن الله وعن هذا الإله المنتقم والمعاقِب، وهي سِفر الخروج وضربات مصر: إنّ الله يريد أنْ ينقذ شعبه مِن فرعون القاسي القلب الذي لم يرد أنْ يستجيب لطلب موسى أي لطلب الله. نرى أنّ الله يقسّي قلب فرعون، وتتمّ الضربات العشر لهذا الشعب، فنصل بعد الضربة الأخيرة إلى موت الأبكار، فيَطلق فرعون الشعب إلى البرّيّة كي يعبدوا الله وينطلقوا إلى أرض الميعاد.

هذه الصورة هي بدورها صورة قاسية عن إله يشكّكنا ويخيفنا. إذ يرسل الأمراض إلى الشعب كي يصل إلى النتيجة التي يريدها. نصّ الضربات العشر في سِفر الخروج هو نصّ صعب جدًّا مِن ناحية أنه لا يمكن أنْ نقرأه قراءة حرفيّة أو سيكرونيّة أو موّحدة ونهائيّة. هو نصّ شائك جدًّا. فإنّ ولادة وبناء هذا النصّ قد تمّت على مراحل، أقلّه على خمس مراحل. فالكتاب المقدَّس بدأ أوّلًا كمجموعة مِن الروايات الشفويّة المتناقلة، وكان هناك جماعات تنقل الروايات شفويًّا مِن جيل إلى آخَر، إلى أنْ جاء الوقت كي يُكتب كتابة. وهذا النصّ تحديدًا كُتب وطُوّر على عدّة حقبات ومِن قِبل عدّة تيّارات فكريّة لاهوتيّة يهوديّة. فالتقاليد الأربعة المعروفة موجودة بشكل واضح في النصّ: نرى التيّار اليهويّ والإلوهيميّ ثمّ المدرسة الكهنوتيّة التي تهتمّ بإبراز أهمّيّة العبادة والتوراة والناموس والتشديد عليه. التيّار الثالث أَخذ هذَين التقليدَين ودمجهم في نصّ واحد ووضع لاهوته فيه. هذا اللاهوت يشدّد على صورة الله الجبّار القويّ المنتقم والذي دخلنا في عهد معه، وإذا خننا هذا العهد سوف يتركنا. لذلك، هذه الصورة بالذات هي التي أعطت هذه النصوص تلك القساوة. إنّما لا بدّ أنْ نفهمها بالمعنى الرمزيّ، أي، أيضًا في هذا النصّ، لا يقول الكاتب إنّ الله قام بإبادة جماعيّة لشعب مصر. وإلى جانب هذه التقاليد، وإلى جانب التقليد الكهنوتيّ، الذي وضع صورة عن الله الجبّار والقويّ، والذي إنْ خالفنا عهده سيؤدّبنا، هذه النصوص تتّجه إلى شعب بهدف لاهوتيّ معيّن. هذا الأدب يريد أنْ يعلن أنّ الله هو الإله الحقيقيّ.

نحن نتكلّم عن إطار مشترك لديه اختلاف في الديانات كالديانات المصريّة الفرعونيّة. هذه الضربات ترتبط بصورة أو بأخرى بالآلهة المصريّة. ضربة النيل مَثلًا كانت أحداث طبيعيّة تتمّ في حياة الشعب المصريّ وبلاد ما بين النهرَين؛ يتحوّل النيل إلى اللون الأحمر بسبب الوحل الذي كان يأتي في بعض الفصول. وهذه الصورة طُوّرَت لاهوتيًّا كي يقولوا إنّ النيل الذي يحمل الحياة قد أُبيد. التفصيل الآخَر والأهمّ هو أنّ الإله “أوزيريس” (Osiris) إله العالَم السفليّ والأموات كان بالنسبة للمصريّين مصدر الحياة للبشر والنبات، وكان النيل رمزًا للحياة. لذلك ضربة النيل وتحويل مياه النيل إلى اللون الأحمر وإلى دم هي كي يقول الكاتب إنّ الإله الحقيقيّ هو إله يهوه، إله الإسرائيليّين، وليس أوزيريس.

ونرى إله آخَر لدى المصريّين هو الإله “هيكيت” (Heket) الذي كان إله الخصب والولادة، ويُرمز إليه بالضفدع أو بامرأة لها رأس ضفدع. إذًا ضربة الضفادع التي خرجَت مِن النيل بَعد أنْ ماتت الأسماك بسبب ضربة الدم هو رسالة واضحة إلى شعب إسرائيل أنّ إله يهوه هو إلهك الحقيقيّ وهو أقوى مِن الآلهة الأخرى.

أيضًا نرى إله آخَر عند المصريّين الإله “كفري”(Khepri) . وهو إله الشمس يُرمز إليه برَجل في رأس حشرة، ومِن هنا ضربة الحشرات التي أَزعجَت المصريّين. فكاتب النصّ أراد أنْ يقول للشعب الإسرائيليّ بطريقة رمزيّة إنّ إله يهوه هو الإله الحقيقيّ. وهنا لا نرى الإله المنتقم بل نرى هذا الإله الذي يربّي شعبه ويوصّل الحقيقة إليه ويقول له: لا بدّ أنْ تبقى مؤمنًا وملتزمًا بالعهد الذي أبرمناه أنا وأنت.

ضربة واحدة مِن ضربات مصر العشر تهمّنا في موضوعنا عن الأوبئة هي ضربة القروح التي طالَت الإنسان جسديًّا وأذته؛ هذه الضربة هي وحدها يعطيها التقليد الكهنوتيّ إذ لم تكن موجودة في النصّ الأصليّ، أي في التقليد اليهويّ والإلوهيميّ، فالكاتب الكهنوتيّ لم يأخذها ولم يطوّرها بل خَطَّها مِن الأصل. لأنّ النصّ لم يتكلّم عن الأمراض الجسديّة أو أمراض الإنسان، لم يمسّ بالإنسان، بل كان يتكلّم عن الطبيعة التي فسدَت بسبب عنف الإنسان وقساوة قلب فرعون. فالكاتب الكهنوتيّ أَدخل هذه القصّة حتّى يقول إنّ ترْك الله وعدم الانتماء له قد يَستجلب أيضًا هذا التأديب الجسديّ. لكنّ هذا الكاتب بمفهومه اللاهوتيّ أراد أنْ يُظهر قوّة الله وتأديبه وصورة الله الذي يريد أنْ يوصل الإنسان إلى الحقيقة حتّى لو كان عن طريق القساوة. هذه هي ميزات هذا التقليد، نراها في كُتب الأنبياء أيضًا التي تشدّد على ضرورة الالتزام بشريعة الربّ كيلا يسقط الإنسان في الألم والمرض والموت.

قصّة أيّوب

والمَثل الآخَر في العهد القديم هو قصّة أيّوب البارّ. هي قصّة بريء متألّم. نرى في بداية سِفر أيّوب تدخُّل الشيطان الذي يقف أمام عرش الله الفخور بأيّوب وببِرّه، ويطلب منه ضرب أيّوب. ويُثار النقاش إنْ كان بِرّ أيّوب هو بسبب امتلاكه الصحّة والخيرات والغنى والأولاد. فيقول الشيطان لله: “مُدَّ يدَكَ الآنَ ومُسَ كُلَّ شيءٍ لَه، فتَرى كَيفَ يُجدِّفُ علَيكَ في وجهِكَ” (أيّوب 1: 11). هنا، يَسمح الله للألم بأنْ يتمّ. وكلّ ما يتمّ في هذا العالَم هو بسماح مِن الله لكنْ، ليس لهلاك الإنسان بل لخلاصه ولخلاص البشريّة مِن خلال الإنسان.

نرى معاناة أيّوب وفقدانه كلّ شيء، ونراه يتساءل أمام الربّ ويطلق صرخة: لماذا؟ إذ كان يعيش الأمانة أمام الربّ. ويحضر لدى أيّوب أصدقاء ثلاثة يعظونه ويقولون له إنّ الله ضرَبه بسبب خطأ ارتكبه. وبقي أيّوب مثابرًا بأنّه لم يرتكب خطأ وأنّه تحت نظر الله. إنّما لا بدّ مِن جواب آخَر لأنّه لا يمكن أنْ يكون الجواب أنّ الله قد انتقم مِن أيّوب بسبب سوء فعله؛ وصولًا إلى النهاية وتدخُّل الله وكلامه لأيّوب وتبريره لأيّوب.

هذه الصرخة الأساسيّة التي أُطلقَت والتي نطلقها كلّ يوم: لماذا يا الله؟ لماذا يموت البارّ ولماذا يتألّم البريء؟ لماذا يَسمح الله بهذا؟ كتاب أيّوب يعلّمنا أنّ الشرّ هو خارج الله والله ليس سببًا للشرّ، إنّما الله يسمح بهذا الألم في حياة الإنسان كيما يصل هذا الإنسان إلى البِرّ وإلى البقاء بأمانة مع الربّ وكيما يصل إلى خلاص الإنسان وخلاص الآخَرين مِن خلال الألم. وهنا نستبق صورة الصليب الذي سيعيشه الإنسان وسيُظهر فيه أمانته لله بغضّ النظر عن المكافآت التي ستُعطى له.

سِفر أيّوب هنا أعطانا هذا الجواب الصريح أنّ الله ليس مصدر الشرّ وليس مصدر المرض ولا مصدر الألم. الله يؤدّب؛ الله يراقب بمحبّة الإنسانَ الذي يتألّم؛ الله يفرح بانتصار الإنسان. وهذا شيء أساسيّ. خاصّة أنّ الله سيعطي النصر النهائيّ، والنصر النهائيّ ليس الخلاص الجسديّ، إنّما هو خلاص الإنسان بكلّيّته واتّحاده بالله الذي أراده منذ الأصل أنْ يكون معه وأنْ يتألّه وأنْ يدخل بعلاقة مع الألوهة.

العهد الجديد

أمّا بالنسبة إلى العهد الجديد، لا بدّ أنْ تكون قراءتنا للكتاب المقدَّس قراءة موحّدة، فالعهد القديم ليس كتابًا مختلفًا عن العهد الجديد ولا يحتوي على لاهوت يختلف عن لاهوت العهد الجديد. فلا بدّ أنْ نقرأ العهدَين بنظرة واحدة، ونعرف أنّ الحقيقة موجودة وتتطوّر مِن العهد القديم إلى العهد الجديد كي نصل إلى ملء المعرفة فتتوضّح الفكرة.

في العهد القديم توضّحَت هذه الفكرة منذ فصوله الأولى مِن خلال هويّة الله الخالق الذي يريد بناء علاقة مع الإنسان ويريد أنْ تكون له الحياة بملئها، فنرى أنّ هذا قد أصرّ الله على إتمامه في العهد الجديد، ونرى أنّه مع المسيح يسوع دخل الله وأراد أنْ يكمل العهد الذي قطعه مع البشريّة مِن خلال آبائنا إبراهيم، وإسحق، ويعقوب.

نرى في العهد الجديد صورة المسيح الـ “عمّانوئيل- الله معنا”، فيَظهر الله مِن خلال يسوع المسيح إلهًا حاضرًا في تاريخنا وحاضرًا في ألمنا وحاضرًا في مآسينا. فهو لا ولن يتركنا، لا بل إنّه يحمينا. فلا يمكن أنْ تتماشى صورة الله الـ “عمّانوئيل” مع صورة الله مسبّب الموت والمرض والذي يستلذّ بألم الإنسان.

في العهد الجديد نرى أنّ الله هو هذا المسّيا المرسَل مِن الله ليصير عبد الله المتألّم حتّى يأخذ على عاتقه آلامنا ومعاصينا كما يقول إشعيا: “حمَلَ عاهاتِنا وتحَمَّلَ أوجاعَنا، حَسِبناهُ مُصابًا مَضروبًا مِنَ اللهِ ومَنكوبًا. وهوَ مَجروحٌ لأجلِ مَعاصينا، مَسحوقٌ لأجلِ خطايانا… وبِجراحِهِ شُفينا” (إشعيا 53: 4-5).

إذًا لا يمكن أنْ يتكلّم هذا النصّ مِن العهد القديم عن إله يتسلّى بألمنا، أو يخلق لنا الأمراض، أو يرسل لنا الأوبئة. هو هذا الإله الذي يريد لنا الحياة والخلاص. وبملء الزمن أرسل ابنه لكي يحمل نتيجة خطيئتنا التي سبّبْنا مِن خلالها الموت والألم لأنفسنا، فأصبح عبد الله المتألّم والـ “عمّانوئيل- الله معنا” لكي يعطينا الخلاص مِن جديد.

لذلك نرى صورة الله الآب الذي يريد حياتنا ويريد سعادتنا، لا الإله الذي يرسل لنا الأمراض ويريد لنا الموت والألم. هو أيضًا في العهد الجديد يسوع أي “يشوع- الله يخلّص” وليس الله الذي يدمّر. هو الإله الموجود في إنجيل يوحنّا الذي حلّ وسط شعبه ونصَب خباءه بيننا. وهذه عودة إلى سِفر الخروج حيث حلّ الله وسط شعبه في صحراء سيناء فالإنجيليّ يوحنّا يقول لنا إنّ المسيح حلّ في وسطنا كما حلّ الله في سِفر الخروج في الصحراء بين شعبه، فيكون ذلك الحضور الذي يخلّص ويعطي الأمان؛ ذلك الحلول الذي يعطي الشفاء. وهكذا نرى هاتَين الصورتَين في العهد القديم قد اكتملتا في العهد الجديد بابنه يسوع المسيح الحاضر بيننا، حتّى يقول إنّ الله حاضر وسط شعبه لا يتركنا، أخذ على عاتقه واقع شعبه فيعطينا أنْ نكون أبناء الله.

شفاء الأعمى

ومع يسوع المسيح نقرأ بهذه الطريقة كلّ الشفاءات التي قام بها خلال حياته على الأرض. ففي شفاء الأعمى منذ ولادته مَثلًا يُسأل يسوع: “مَنْ أخطأَ؟ أهذا الرَّجُلُ أَم والداهُ، حتّى وُلِدَ أعمى؟”، فيردّ يسوع: “لا هذا الرَّجُلُ أخطَأَ ولا والداهُ. ولكنَّهُ وُلِدَ أعمى حتّى تَظهَرَ قُدرةُ اللهِ وهيَ تَعمَلُ فيهِ” (يوحنّا 9: 2-3).

شفاء الأبرص

كذلك الكلمة الرمزيّة في مرقس والأناجيل الموازية في شفاء الأبرص هي جواب يسوع على سؤال الأبرص: “إنْ أرَدتَ طَهَّرتَني” بقوله: “أريدُ، فاَطْهُرْ!” (مرقس 1: 40-41). هذه هي الإرادة الإلهيّة بأنْ يشفى الإنسان، لا أنْ يكون مفصولًا عن إخوته بسبب المرض وهنا نتيجة مرض البرص يشبه عزلتنا بسبب مرض كورونا الحاليّ وما يتأتّى عنه مِن عدم احتكاك مع الآخَر وعدم الانطلاق نحوه أي كعائق لعلاقة المحبّة. ونحن ما زلنا حتّى هذه اللحظة نسمع كلمة يسوع: “أريدُ، فاَطْهُرْ!”.

إرسال التلاميذ

في ختام هذه الأمثال، نذكر حدث إرسال التلاميذ حيث هناك دائمًا ذكر للشفاء: “أعْطاهُم سُلطانًا يَطرُدونَ بِه الأرواحَ النَّجسَةَ ويَشْفونَ النّاسَ مِنْ كُلِّ داءٍ ومرَضٍ” (متّى 10: 1). هذه هي المسؤوليّة التي سلّمها الربّ يسوع الطبيب إلى كنيسته كي يكون كلّ واحد منّا هذا المنطلِق ليتمّم الشفاء للبشر، ليس فقط الشفاء الجسديّ، بل أيضًا شفاء الروح، وهو الأهمّ، الشفاء الخلاصيّ، شفاء العلاقات، شفاء القلب، شفاء الجروح. أعطانا المسيح هذه المسؤوليّة لكي ننطلق ونشفي العالَم.

خاتمة

خلاصة قولنا وجوابًا على السؤال الذي انطلقنا منه والذي هو في صلب موضوعنا: لا! الله ليس مصدر الكورونا، الله ليس مصدر الأمراض والأوبئة. الله يقدر أنْ يوصلنا إلى الخلاص حتّى مِن خلال هذه الدروس التي تُعلِّمنا إيّاها الحياة بطريقة قاسية. الله يبقى حاضرًا معنا. هو الـ “عمّانوئيل” الحاضر معنا والمخلّص.

  • الأب د. بيار نجم، راهب مارونيّ مريميّ، نائب عام في الرهبنة، ورئيس جامعة سيّدة اللويزة. منسّق الرابطة الكتابيّة في الشرق الأوسط. مجاز بعلوم الكتاب المقدَّس مِن المعهد البيبليّ الحبريّ رومة (Biblicum)، ويحمل دبلومًا في اللاهوت المريميّ من المعهد الحبريّ المريميّ (Marianum)، ودكتوراه في ادارة الاعمال من جامعة باريس. له مقالات ومنشورات لا سيّما حول إنجيل يوحنّا.

[1] النصوص البيبليّة الواردة في هذه المقالة هي بحسب الترجمة العربيّة المشتركة، بشكل عام.

RECENT POSTS

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في الكتاب المقدَّس

المواطنة في العهد الجديد الخوري الدكتور باسم الراعي* (محاضرة قُدِّمت في مركز الدراسات الكتابية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع لجمعيّة الكتاب المقدس في لبنان بتاريخ 26/5/2023) مقدّمة القسّ د. عيسى دياب هذه الندوة هي الثانية لسنة 2023، مِن بين ثلاث ندوات، نتناول فيها...

×